آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

رحلوا وما عادوا‎

وكأن الدنيا محطة قطار أو موقف حافلات، هناك من يحط رحله في هذه المحطة ويركب آخرون للمحطة القادمة، وهكذا هي الحركة باستمرار لا تتوقف ولا تعطي استثناء لأحد، البشر كافة يولد في كل يوم منهم أناس وتداهم المنية آخرين، فمتى نعي هذه الحقيقة - الرحيل المتيقن - فنحزم حقائبنا حاملين أوراق أعمالنا الصالحة، ونتخلى عن الأوراق التي لا نحتاجها ولا نستفيد منها، وهي تلك الأحقاد وقطيعة الأرحام والتعرض للآخرين بسوء الكلام كالغيبة والنميمة والسخرية والتكبر، لنجعل اللحود مستقر راحة النفس بأنسها وتشوقها وانجذابها للرحمة والمغفرة الإلهية، فقد سعد من ساقه التحنان الرباني للتخلص من بؤس المعصية وألم التقصير، فما عسانا أن نفعل في أعمار قصيرة لنحظى بانقطاع لله عز وجل وطمأنينة بملازمة كتابه المنزل، لا تستحق الحياة كل هذه العداوات المصطنعة فيلحقنا الندم والتحسر على فقد من آذيناه، ولا تسعفنا العزة بالإثم للتسامح والاعتذار منهم.

هل تصورنا يوما وقوفنا أمام محكمة العدل الإلهي وقد اصطف طابور طويل من خصمائنا، ينتظر كل واحد منهم دوره ليدلي بمظلوميته وما ارتكبناه من خطيئة في حقه، فهذا اغتبناه، وذاك بخسناه حقه، وذاك تآمرنا عليه، ووووووو، يا له من موقف رهيب لا نتحمل تصوره فضلا عن انتظار تطبيقه أخرويا، فلنقف أمام مرآة النفس مراجعين حساباتنا ونعيد ترتيب أوراقنا، بما يخلصنا من ربقة المساءلة والمحاسبة والاقتصاص لحقوق الآخرين من عمل ضئيل لا نعلم القدر المتقبل منه، وإذا بالخصماء يوم الحساب يتلاقفونه في مقابل ما فعلناه بهم من عدوان.

هل وقفت يوما على أطلال الأماكن التي تنقلت بينها في صباك، فهاجت بك الذكرى فتبتسم حينا لما يراود مخيلتك من مواقف وذكرى جميلة، وتتسمر ويتبلد وجهك لمرور طيف ألم أو حزن أو موقف صعب مررت به؟

نعم الكل سيرحل، وستبقى لكل واحد بصمته الخاصة والتي يجد لها نظيرا في سجل أعماله مثبتة بكل تفاصيلها، ومن المعروف أن حب النفس يذهب بنا نحو توقي كل ما يلحق الضرر والأذى بنا، ومن جهة أخرى يدفعنا نحو التحلي واكتساب ما يزيننا بجمال أخاذ، والحقيقة أن عملنا هو ما يصنع مفترق الطرق ما بين المحمدة والمذمة، فلنضع هذه الحقيقة في مستقر أفئدتنا دون تضيبع للوقت أو تسويف فيه، فالإنسان مكرم في عقله وطموحه وهمته العالية للاتجاه نحو قمة تكامل النفس وتزيينها بحلية الخلق الرفيع، فلا نخدش هذه الصورة الجميلة لنا بما يخدشها من تجاوز الإدراك العقلي وتنحيته جانبا، متجهين نحو وحل الأهواء والشهوات التي تملأ أفئدتنا اتساخا وتكدرا حتى نستقذر ما نحن عليه، ولكنه حينها لا يعد إلا اشمئزاز متأخر لا فسحة فيه للعمل مجددا.

فلنكن من أهل المعروف والإحسان الذين لا يعضون الأيدي البيضاء التي امتدت لهم بالخير والعطاء، والتجريء على محارم الله تعالى وتنحية الورع والحياء يعد قمة الإساءة، وإذا جعلنا رضوان الله تعالى همنا ومبتغانا لم نحمل في قلوبنا إحنا ولا بغضا لمن أساء لنا يوما، فالكل راحلون والأريب من مهد لرقدته وأنار مهجعه بقناديل الباقيات الصالحات.