آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 1:13 م

نهج العدالة

لقد كانت سيرة أمير المؤمنين دستورا واضحا في تعريف مفهوم العدالة والحفاظ على حقوق الغير، وجعل الإنصاف راية خفاقة في دولته المباركة يسير الناس بفيها، دون أن يشعر أحد الرعية بانتهاك لحقوقه أو انتقاص لا لمجرد كونه ضعيفا أو فقيرا، بل وأعداؤه يأمنون على أنفسهم من غيلة الظلم والعدوان ما لم يتعرضوا لغيرهم بسوء، فأي أمن اجتماعي كان يحياه الناس وينعمون به مع إمام العدالة دون شعور بخوف وتوجس من الأذية؟!

وتاريخ الفساد والاستبداد غيمة سوداء ثقيلة على رؤوس المستضعفين على مر الزمان مع تفاوت بين حقبة وأخرى، فالإنسان يئن من وطأة ظلم أخيه الإنسان يقوده الطمع والجشع ورغبة الاستيلاء على ممتلكات ومختصات الآخرين بسطوة وعدوان مباشر أو برسم الخطط الشيطانية الخداعة، وقراءة سريعة لتاريخ الجاهلية والعصر المظلم لأوربا تكشف عن الوجه القبيح للإنسان إذا تخلى عن عقله المنظم لحياته، وغلبه الانفعال والتهور عليه ليغدو وحشا كاسر يفتك بالكبير والصغير، والأمل يحذو بالناس للاستظلال بالعدالة وحفظ وصون الحقوق عن الاعتداء، تريد الإنسانية الركون إلى ركن شديد من دستور يخط معالم الحرية والحقوق.

وكانت دولة أمير المؤمنين امتدادا لحكومة رسول الله ﷺ إذ تعد صفحة مشرقة ناصعة البياض تكتنف القيم الجميلة كالأمان الاجتماعي وهيمنة العدل والإنصاف وتطبيق العدالة على أي متجاوز ومعتدي دون محاباة لأحد.

واليوم وقد تنبهت الشعوب إلى خطر شريعة الغاب ومهالك التجاوزات دونما حق، مما يؤدي إلى انتشار الكراهيات والخصومات ونشر العذابات والآلام والبؤس، فتصبح الحياة عيشة ضنكى لا تطاق ولا تحتمل بعد أن يسود الظلم والفساد ويصبح سلطة قوية تتحكم بمفاصل المجتمعات، فما جنى الإنسان من استغلاله لثروة أخيه الإنسان وتجاوزاته العدوانية، لقد خلف عدوان وظلم الإنسان على الآخرين الدمار والهلاك والتخلف والبؤس والحرمان وجحيما لا يطاق.

لقد تنادت النخب الثقافية والاجتماعية بصوت عال في مواجهة ظاهرة مقلقة جدا ألا وهي هضم الحقوق واغتصابها، بالدعوة إلى شرعنة ودسترة حقوق الإنسان وصيانتها وإعلاء شأنها ونشرها كثقافة مجتمعية ومنهجية تربوية تزرع كسلوكيات في الأفراد منذ الصغر.

ولمن أراد تاريخا ناصعا للعدالة تأصيلا كمفهوم حضاري وسلوك راق يتجسد في تصرفات الإنسان السوي، فلننظر لكلمات الإمام علي الداعية لاحترام الإنسان بغض النظر عن محدداته العقدية والانتمائية، فالإنسان - بما هو إنسان - مخلوق مكرم له حق الاحترام ومراعاة حقوقه وممتلكاته وحرمة التجاوز عليه بأي لون من ألوان الاعتداء المادي أو المعنوي، والعقوبات الرادعة بانتظار وفي وجه المعتدي الجائر، فالحرية وحقوق الإنسان عنوان مشرق في فكر أمير المؤمنين تنضح به كلماته النيرة وتوجيهاته الحكيمة، والقاضية بالتزام القوانين المنظمة لعلاقات الناس باحترام شخصياتهم وكفالة حقوقهم من أي انتهاك يشنه من تسول له نفسه بالسوء.

وحق المساواة والتكفل بتوزيع المال والنفقة للجميع دون نظر لجهة الطبقية والعنصرية والدينية، بل الكل مكفول له هذا الحق دونما تمييز، أما لو طبقنا مباديء وقيم الإمام علي في احترام الآخر وحفظ حقوقه والمساواة لانطفأت نار الكراهيات والأحقاد في القلوب، ووأدنا غسيل الأدمغة الذي يتعرض له الإرهابيون ممن يغذي عندهم الشعور باحتقار الغير لهم، فأحرقوا الأخضر واليابس وأوقفوا عجلة التنمية والازدهار المجتمعي.

ومن الأمثلة الحية في سيرة حقوق الإنسان والعدالة وحفظ الحقوق عند أمير المؤمنين هي وصاياه لأصحابه بكيفية التعامل مع أعدائهم الذين شنوا عليهم الحرب وفرضوا عليهم القتال، فأوصى بعدم البدء بقتالهم ما لم يبادروهم بشيء كراهية في سفك الدماء، ووضع آداب وقواعد القتال ومنها إسعاف جرحى الأعداء ومداواتهم وتخفيف آلامهم، ومن أدبر عن القتال منهم فليتركوه وشأنه وكذا الجريح لا يجهزوا عليه، حفاظا على حياتهم وأملا في رشدهم وانضمامهم للمجتمع كأفراد مساهمين في تنميته.