آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 9:52 ص

السلالم والثعابين - 8

بُنَىَّ: اليومَ أنا أحملكَ في مقدمةٍ، هي حكايةُ جيلي الذي وُلِدَ في أوائلِ الستيناتِ من القرنِ الماضي وقتها كانت المدارس حديثة العهد في الجزيرةِ التي ولدت فيها. عندما افتتحت المدارسُ كانت مكتظةً بالطلاب، ومعظم المدرسين من البلدانِ العربية الأخرى. كنا أحياناً نجلس على بساطٍ حيث قد لا تتوفر المقاعد، وفي جمعٍ من صغارِ السن ومن هو أكبر انضم للمدرسة متأخراً.

لم يكن المالُ وافراً عند كثيرٍ من العوائلِ لشراءِ أبسط متطلباتِ المدرسة من ملابسَ وأقلامٍ ودفاتر. ومن يعطيه والده نصفَ ريالٍ يشتري به شيئاً يأكله في منتصفِ اليوم كنا نعده من عليةِ القومِ في اعتدالِ الحال، وفي حال كانت المدرسةُ بعيدةً ولم تكن هناك حافلات تنقلنا، مشينا بين حقولِ النخيل جماعاتٍ، صباحاً في البرد ثم نعود بعد الظهرِ تحت حرارة الشمس. ولو أنني سردتُ لك الكثيرَ من المعاناةِ أصابتك الدهشةُ من الفارقِ الكبيرِ في رخاءِ الأيامِ الدراسية بين الأمسِ واليوم.

لكن معظم أبناء ذلك الجيل كانوا كباراً في الهمةِ وشغوفينَ بالدراسة، منهم من صار من أحذقِ الأطباء، أو المهندسين، أو المعلمين، فلِمَ نجحوا ولم يتسرب الكثير منهم نحو الفراغ والفشل مع قسوةِ المدرسِ ووفرةِ الوظيفة التي كان مردودها يكفي حاجياتِ العاملِ في ذلك الزمان؟ أعتقد أن السرَّ كان في إدراكِ الكثير منهم أن الجهلَ كان الأفعى التي سوف تفتك بهم في مقابلِ العلمِ الذي كان السلالمَ التي يرتقونَ بها من سراديبِ الجهلِ إلى عالمٍ أعلى، وعندما توافرت الفرصُ كانوا هم الأوائلَ في الدراسةِ خارجَ المملكةِ وكل من غادر عادَ بشهادةٍ من جامعاتٍ عريقةٍ وثريةٍ بالعلمِ والمعرفة.

كان بيتنا في بستانٍ بين النخيل، وكما كل أهل الجزيرة لم يكن لدينا مصابيح كهرباء نستذكر على ضوءها، بل كنا نقرأ الدروسَ في ضوءِ فوانيسِ الكيروسين أو الشموع متى ما توفرت. ولا تزال ذاكرتي تفيضُ بمنظرِ جاري الأكبر مني سناً عندما كنت أنطُّ سواقيَ الماءِ في الظلام، أقصده ليشرحَ لي مسائلَ الحساب، وأراه منكباً على دفاترهِ وكتبه وفي النهارِ هو من يعين والده في النخل.

لم يكن العلم في الماضي مرتبطاً بالمال، ولكن كان مرتبطاً في البعدِ عن أفاعي الجهل، وحب المعرفةِ المطلق، أما الآن فهو تقريباً المدخل الوحيد للمال. إذاً: عليك أن تغرف منه ما يكفيك للحصولِ على العيشِ الكريم، إن لم تكن المعرفة تهمك في ذاتها. ليكن تعليمك وزرع محبةِ العلم في روح صغاركَ أولويتك الشاغلة، وإن أجبركَ شح المالِ على الإختيارِ بين رفاهيةِ عيالك أو تعليمهم فلابد أن يكون خيارك واضحاً، بل إن خيرتك الأيامُ بين الأكلِ الوافرِ والتعليم، لابد أن تختار التعليم.

تقول العربُ في أمثالها ”عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى“، ويعنونَ أن صحة ما اختاروا وقرروا سوف تبين لهم بعد حين، فلم لا نكون جادين، صابرينَ محتسبين، في تحصيلِ العلمِ وتوديعِ الجهل والبطالة؟ الغناء على مجدِ الماضي لن يفيد كثيراً، ولكن بناء المستقبل هو ما يهم.

بُنَىَّ: حملتكَ اليومَ في حكايةِ أفاعي الجهلِ وسلالم العلم، ولابد أن أيادٍ كثيرة رفعتك إلى حيثُ أنتَ في سلم المعرفة، فلازمكَ أن تردَّ لهم جميلَ الصنع في أن تواصلَ رحلةَ العلمِ والمعرفة في نفسكَ وفي غيرك. حكايةُ العلم ليست فقط لك ولكن هي لكل من يستطيع أن يتعلم شيئاً جديداً، وإن كان في عمرِ المائة! في جيلِ اليوم الكثير من المبدعين الذين لا يقلون حباً للعلم عمن سبقهم، ولكن تحدي الحياة صار أكبر بكثير من تحدياتِ وصعوباتِ الماضي، فلمَ لا تكن أنتَ وأبناءك من هولاءِ المبدعين ومن كبارِ النفوسِ الذين يفخر بهم وطنهم وتاريخهم في مستقبلِ الأيام؟.

مستشار أعلى هندسة بترول