آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 11:39 م

غريبٌ عن هذا العالم!

من قرأَ القرآنَ الكريم، الكتاب الذي جاءَ به النبي محمد ﷺ، لابد أنه قرأ سورةً تحكي قصةً كاملةً فيها علاقاتٌ أخوية التبست وصبيٌّ غابَ عن أبيه لأن إخوته رموهُ في جب، نجى من الجب ثم امرأةٌ دعته إلى لقاءِ خيانة، لم يقبل الرذيلة وسجن، وأخيراًعاد إليه والده الذي كاد أن يهلك من أسى البعدِ، بعدما أعطى حين خرج من السجن دروساً في الإقتصاد وصارَ وزيراً حافظاً وأميناً على خزائنِ أرضِ الملك. إنها السورةُ التي حكت قصةَ النبي يوسف منذ صباه وحتى نهاية حياته تقريباً.

لم يكن القرآن الكريم ليهتمَّ بجمالِ يوسف لو كان جمالاً عادياً ولا أشك أن الوصفَ كان واقعياً لجمالٍ باهر. خطف يوسف لبَّ زوجة عزيز مصر، ودعته لارتكابِ الفاحشة معها. لم يتردد يوسف أن يهربَ وكان لازمة الهروب أن يقضي سنيناً في السجن، وسرقَ جمالُ يوسف أبصارَ النسوة الذين دعتهم امرأةُ العزيز إلى بيتها وأعطت كلّ واحدةٍ منهنّ طبقاً فيه فاكهة وسكّيناً حادة لتقّطعها، وأمرت يوسف بالدخولِ عليهن، فلما رأينه قطعنَ أيديهن وقالوا إن جمالَ يوسف ليس من صنفِ جمالِ البشر ولكن من جمالِ الملائكة.

ماذا لو ”معاذ الله“ انتهت مواجهةُ يوسف مع الشيطان بأمرٍ آخر ليس من أمورِ الكمال، فهل كان القرآن سيهتم بيوسف وبكل هذه التفاصيل والمعاناة والتخليد في سورةٍ تحبس أنفاس من يقرأها ويعيد قراءتها كل مرة؟ بالطبع لا، إذ أن يوسف كان رمزاً للجمالِ في الخارجِ وفي الباطن. تغيرت معاييرُ الجمالِ الظاهري كثيراً فأصبح الصبيانُ والصبايا ومن كبر أجملَ وأكثرَ نضارةً من القرنِ السابق في الشكلِ والملبسِ والمركب والمسكن والمأكل، فماذا عن القسمِ الآخر من الجمالِ الذي يراه الناسُ منا في سلوكنا وكيف يبدو لهم باطننا؟

لم يكن الجيل السابق أكثر صفاءً والتزاماً بالأخلاقيات كما يزعم أهله، ولكن هي من باب ”وكل يدعي وصلاً بليلى… وليلى لا تقر لهم بذاكا“. كان في السابق كلما يخطر في بالِ البشر من مخالفاتٍ دينية واجتماعية وسلوكية. لكن تبقى المشكلة في تراجع هذا الجمال الداخلي ونكوصهِ في ظل التقدم في العلم والمعرفة ووسائل الوصولِ إلى الكمال، إذ كان في السابق المؤثر الرئيس في السلوك محدوداً في الأسرة والمجتمع الصغير.

عندما تُغلق الناس أبوابها لا يعلم ماذا يفعلون سوى الله، فربما هم لا ينامون الليلَ من طولِ التهجد أو ينامون على صوتِ الدفوف، ولكن من الغرابةِ أن ترى في الشوارعِ والطرقات كل حين منظومةً سالبةً من المخالفاتِ والسلوكيات في الخارج والتي يفترض أنها اختفت مع الأجيال السابقة، وأبناء المستقبل يصرونَ على أن يبعثوها حيةً في صفحاتِ الخجل. في كل الحقولِ يوجد الزهر والشوك وفي كل الأجيالِ يوجد الذوق الراقي والذوق التافه، ومع أنه لا يمكن التعميم فإن شخصاً واحداً يمكنه أن يدوسَ كل الورود التي يزرعها العشرات، وشخصاً واحداً يشوه ما بناه مجتمعٌ كاملٌ من منظومةِ القيم والأخلاق الاجتماعية.

في كل زمانٍ يبقى الجمالُ والصباحة قيمةً نسبيةً تتقدمْ وتتقهقرْ، ولكن تبقى الفضائل والسلوك قيمةً مطلقةً لا بد أن تسير في خطٍ مستقيم ولا يجوز أن تُنتقص، والقيمتانِ لا يتنافسان بل يتكاملان في أفضل الحالات. لنا أن نسأل هل العلم والحضارة جاءَ أولاً أم الأخلاق؟ أكاد أجزم أن الأخلاقَ جاءت قبلَ العلم وهي معه وتبقى وإن ذهب العِلم.

مستشار أعلى هندسة بترول