آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

الزُرّاع

ينمو الزرعُ من بذرةٍ لا يرميها الزارعُ في همجيةٍ ثم يرجو أن تكبر! ولكن يحميها من الريحِ والطير، يسقيها كل يومٍ ويقلب التراب ولو استطاعَ أن ينامَ تحتها لفعل. ليس الزارع وحده من تراوده الأحلامُ أن ما بذر سوف يكبر، فالزارع والوالد والمربي كلهم يملكونَ قلوباً أرقَّ وأصبر وأحلاماً أكبرَ ممن لم يمتحن نفسه في مثلِ هذه الميادين. إن أتت جائزةُ الصبر ونمت الشجرةُ نَطَّ الزارع فرحاً، وإن نمت القيمُ في النفوس ابتهج المربي، وإلا دعتهمَا ينابيعُ الحنانِ أن يعاودوا الكرَّة من جديد.

تخيب آمالُ بعضهم أحياناً فالزارع قد يبكي إن لم تنبت البذور، والمربي قد لا تنفعه مواعظهُ وكتبهُ العتيقة، والوالد يخيب بعدما داعبت أصابعه شعر رؤوس أبناءه لكن القيمَ والمثل لم تداعب نفوسهم وأرواحهم ولم تمر إلى داخل جماجمهم. لا يملك الزارعُ قدرةَ تغيير الأرض في أعماقها أو الماءَ النابع من تحتِ الأرض أو الشمسَ التي تمد زرعه الطاقة، ولا يملك المربي النفوسَ وما يدور في خلدها ويؤثر على محيطها وكل هؤلاء عمله نَمَطٌ من أعمالِ الرسلِ والأنبياء، لا يجوز لهم أن يملوا في ابتداعِ الوسائلِ في مد البشر بالغذاءِ الروحي، وإن لم يؤمن بهم إلا القليل!

يحمي الفلاحُ الشجرةَ طويلاً وفي لحظةٍ عندما يراها تتمرد في الطولِ والعرض قصَّ اطرافها، ليس لتموتَ الشجرة ولكن يقسو عليها ليدفعها نحو القوةِ والاستقامة وحمل الثمارِ بدلاً من حملِ الأوراقِ المورفة. كذلك المربي وزارعُ القيم يتأرجح بين الشدةِ مرةً واللين مرات. يحسب الصغار أن التربيةَ تشبه الديمقراطية المطلقة، فيمكن لهم أن يرفضوها أو يقبلوها، لكن التربية في الأغلبِ شيء من الدكتاتورية والديمقراطية التي قد لا يقتنع بها الصغار لكن لا يحق لهم التمرد عليها ورفضها، وفي الكبر غالباً ”ستنبأهم الأيامُ ما جهلوا“. خليطٌ متناسقٌ من مشاعرِ الحبِّ والحزم يخلق أطفالاً أكثر نجاحاً في المشيِ بين حدودُ الحياةِ دون أن تجرحهم في خشونتها أو تذيبهمْ في ليونتها. وليست وسطية التربية نقطة في منتصف المسافة بين طرفي اللين والحزم إنما هي ”النقطة“ الأنجع والأنسب في تحقق المأمول من النتائج.

في البحث عن الكمال يقضي الفلاحُ وزارعُ القيم شطراً من عمره هذا يعين الشجرةَ أن تتغلبَ على قسوةِ عناصرِ البيئة لتصبح كبيرةً مثمرة، وذاك ينظر إلى من يربي مثلَ الطائر الذي يحمي فراخه حين ليس لها إلا الزَّغَبُ وليِّن الريش إلى أن تطير وتستطيع أن تحمي نفسها من الصيادين وجوارح الطيور. وما الخيطُ الرابط بين هؤلاء سوى الحب والعناء الذي بقي من أثرِ أقدامِ الأنبياء الذي يمتلكونه داخلهم  تذروه الرياح شفقةً وحنواً ومحبةً وتزرعهُ في أرضِ غيرهم.

هي تجارب الحياةِ، ننخلهَا من الشوائبِ مثل الدقيق ونَختزنها ونغذيها صغارنا رجاءَ أن تحملَ النواةُ والبذرةُ شجرةً أصلبَ وأجملَ وتثمر ثمراً أشهى. نرمي النواةَ وننميها نحنُ والشمس والماء والتراب في نسبتنا القريبة ويَدُ الله في نسبتها البعيدة، فإن كانت فللهِ ذرهَا، وإن لم تكن لا يلامٌ الزارع!

مستشار أعلى هندسة بترول