آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:02 م

لاتكن دمية بيد غيرك

المهندس أمير الصالح *

على مدى اكثر من اربع عقود من الزمن لاحظت مواقف وتجاذبات غريبة في الحراك الاجتماعي، متعددة الأبطال في كل مشهد، الا ان من بين الأمور التي يعتصر قلبي لها هي كثرة الاصطفافات داخل ذات الطيف الاجتماعي الواحد. الآيات الكريمة التى تتلى إناء الليل واطراف النهار تصدع بضرورة تكوين عقل مستقل وناهض ومتفحص ومحصن من الوقوع في اخطاء الأمم الغابرة لا سيما في كل ما هو ذو شأن فكري او عقائدي او سلوكي او اخلاقي او مالي او اداري او اجتماعي. نورد تبركا واستذكارا وتدبرا وتدارسا الآيات القرآنية التالية:

«وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا»

«بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ».

وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا»

«وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا»

كل من حظي بشي من جزالة الكتابة وحسن التعبير قد يستطيع توظيف الآيات القرانية المذكورة انفا بشكل او اخر انتصارا لفكرته او تعضيدا لرأيه. وهذا مبدئيا امر جيد طالما انه لا يعمم الفكرة على جميع الناس ولا يستنقص من ذكاء القراء او المستمعين بتمرير هذا او ذاك الرأي على انه الحق المطلق ونهاية الحكمة. وهنا تبرز أهمية الآية الكريمة «كل نفس بما كسبت رهين» في انه يحاسب كل فاعل بفعله ولا يعمم الحكم على مجتمعه المهني او الديني او العرقي او المذهبي او انتماءه الفكري. نعم هناك في عالم الرياضة والدين والصحة والتعليم والمال من يتاجر بمهنته وهناك من لايبخس الناس حقهم انصافا وعدلا.

من الجيد ان ندعم استقلالية الشخص في التفكير والتحليل لما يدور حوله ولكن ليس من الحكمة بان نعمم التهمة مثلا للأطباء بانهم غير شرفاء لوجود حالة إخلال اخلاقي ونعمم فكرة بان رجال الدين حرامية للكشف عن حالة بعض مغتصبي الحقوق ونطلق حكم عام بان المعلمين مهملين لـ الابلاغ عن مدرس متسيب.

ندعو بصوت الحكمة إلى ان لا يكون أيا منا امعه او دمية بيد غيره وفي ذات الوقت ندعو ان يراجع مكاسب الالتفاف حول المخلصين من كل فئة من ابناء المجتمع والسعي لتجذير الصالح من الاعمال والأقوال والاحتفاء باهل العطاء والتضحية من تلكم الأشخاص والسعي الصادق لإحراز الموضوعية في حوكمة اجتماعية لمن لديهم انتهاكات سلوكية او اخلاقية او أدبية او خيانة علمية.

رجوعا لموضوع لا تكن دمية، وددت ان أتلمس بعض الشواهد. في حراك الرياضة وجدت ان البعض يؤول حاله كدمية لغيره. الاستمتاع بمشاهدة مباراة شئ والتعصب الأعمى لفريق ما شئ آخر. البعض يجعل من نفسه دمية بان يكون امعه مع كل ما يسنه الفريق الذي يشجعه من افعال ويبرر لنجومه الرياضيين كل وقح من الاعمال والأفعال. وهذا الأمر قد يقع ضمن دائرة ”الحب اعمى“. الا انني اتعجب ممن يسلم عقله ووجدانه للآخرين لمجرد لحظة إعجاب.

في الادارة المالية:

لكون فكرة القطيع في الاستثمار مسيطرة في بعض الاوساط الاجتماعية لسهولة الكسب او لتفشي الخمول والكسل في البحث المعرفي عن ادبيات الاستثمار فضاعت أموال وحرقت مدخرات وتبخرت فرص نمو عديدة وتهاوت أوقات ثمينة وتصدعت اُسر. وهذا المشهد تكرر اكثر من مرة على مدى عقود واضحى البعض دمية في يد الآخرين في استثمار المدخرات لضحالة الثقافة المالية والمعرفة الاقتصادية.

في الادارة الاجتماعية:

معظم أعضاء المجتمع يتفرج على المشهد الاجتماعي ويتحفظ الأغلبية من أخذ روح المبادرة لخلق مجتمع افضل خوفا من النقد السلبي او خوفا من التعرض لـ كسر العزيمة ولذا ترى الكثير من ابناء المجتمع يتندر ويصب جام غضبه على الوضع الردئ القائم في محيطه ولكنه لا يجرأ على أخذ روح المبادرة لخلق التغيير المطلوب نحو حال أفضل. وبذلك يكون حاله / هم

مصداق الآيه «قاتل أنت وربك. أنا ها هنا قاعدون»

في الادارة للشؤون الدينية والفكرية:

في كتب بعض المؤرخين الغابرين، يروي لنا بان هناك شخص ذو تاثير اجتماعي وديني غضب على قائد اجتماعي اخر، فقال الوجيه الاول في حق الوجيه الثاني بعد احتدام الخلاف بينهما وأمام أنظار ابناء المجتمع يومذاك: اقتلوا فلان فقد كفر؛ واضمر البعض من الناس الفعل لترجمة هذا القول في قتل فلان، ثم دارت الأيام وعقد المتخالفين اي الوجيه الاول والثاني تفاهم واطلق الوجيه الاول، بُعيد التفاهم، قولا اخر معاكسا لمافيا سابقا فقال: أني رضيت عن فلان فأرضوا عنه وترضوا عليه!.

اصبح الكثير من الناس يومذاك يعيشون في ضبابية عما يدور حولهم واكتشف البعض انهم دمية. ولكون البعض لم يحكم عقله ضاع عمره بيد غيره دونما فائدة له في الدارين.

وفي عصرنا المعاصر كثير هي الشواهد ونذكر على سبيل المثال، مشهد لرجل متحدث او خطيب او كاتب او مثقف يتبنى فكرة جماعة ما داخل البيت الاجتماعي الواحد ويوظف قلمه وفكرة وصوته وخطابه لينهال بالشتائم والاستفزار والاستنقاص والتهكم والاتهام لافكار ورموز الجماعة الاخرى في داخل ذات البيت الواحد. وينتفض ذاك المجموع الآخر المعتدى عليه بالتسقيط ويفعل إجراءات قانونية مستعينا بسلطة القانون فيعتذر ذاك الكاتب او الخطيب. وتسجل لاحقا التناغم والزيارات المتبادلة والحفاوة وكانك تسجل مشهد افتراش البساط الأحمر بين الخصمان السابقين وتكتشف ان من وضع نفسه في خضم السجال جعل من نفسه دمية وأضحوكة قد اضاع وقته وجهده وماله في المكان الغير صحيح. فبدل من ان يبذل جهده في أمور اكثر اولوية ك تربية وتثقيف وتحصين نفسه وأفراد أسرته على القيم اضاع وقته ببن القيل والقاب وطلع من المولد بلا حمص. ونفس الكلام يقال في حق الشخص الليبرالي المتعصب والشخص الشيوعي المتحمس والشخص الرأسمالي المتغطرس والشخص الماركسي المتحفز والعلماني المتذاكي.

على العموم، ينشط البعض من الكتاب والخطباء والنقاد في تضخيم السلبيات لمجتمعاتهم وتكميم ذكر الإيجابيات للمجتمع ذاته والتعمد في تضخيم ايجابيات المجتمعات الانجلوسكسونبة بالخصوص وهذا في رايي نوع من الجلد الذاتي المستفحل وتنفيس عن احتقانات ما وكأن هذا مصداق للقول السائد «ابونا ما يقدر الا على اُمنا».

نعم هناك أمراض وعوارض سلوكية واختناقات اخلاقية ونفاق اجتماعي في مجتمعنا ومعظم ابناء المجتمع يعرفون معظم تلكم الأمراض ولكن هذا لا يسوغ هدم كل البناء الاجتماعي لإعادة بناء المجتمع من جديد على ضوء مفاهيم مستوردة يقتنع بها هذا او ذاك من الكتاب. بل الأجدر كما ارى بانه اي متصدر للشؤون الاجتماعية او اي كاتب او اي مثقف او خطيب او أمام جماعة ان ينشر مفهوم استقلال الفكر والانصهار الاجتماعي ومطالبة تصحيح الواقع ومعالجة الانحرافات وزيادة معدل ندوات الحوار الهادف وتحفيز الوعي وفي ذات الوقت توطيد العلاقات الاجتماعية وعدم إقصاء اي فرد من ابناء المجتمع طالما يرتكز على القواعد المشتركة. نحن مجتمع نامي وفي حاجة لتعاضد الطاقات وبناء الأفضل ولينا بحاجة إلى التشرذم والتفتت ولذا يفترض بالجميع ممن لديه حس المسؤولية ان ينمي وعي الجميع ويتلافى عمليات الهدم.