آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 1:31 ص

الزحام

لم تكن الدرجات في مراحلِ الدراسةِ الابتدائية حتى الثانوية عندما كنا صغاراً ذاتَ قيمة كبيرة، ولم توجد بعد امتحانات القبول في الجامعاتِ كما هي اليوم، فالكل كان يحصل على مقعدٍ في الثانوية والجامعة أو الوظيفة قبل إنهاءِ الجامعة إن أراد. أمي لم تكن استثناءً، فهي لم تسألني عن النتيجة وعند السؤال لماذا؟ كان جوابها: أنا متأكدةٌ من نجاحه ولم تكن تهمها درجة النجاح. تغيرت الآن قيمةُ الدرجات حتى أنها أصبحت المدخلَ الرئيس لمواصلةِ الدراسة والعمل والمستقبل بكل تفاصيله وكانت كلماتي الثلاث المفضلة التي قلتها من بعد لأبنائي ولمن أعرف: ”ابتعد عن الزحام“.

في علم الإحصاء يوجد منحنى هندسي يسمى ”التوزيع الطبيعي“ وهو من الأدوات كثيرة الاستخدام في التحاليلِ الإحصائية التي يحتاجها المدراء والمهتمون بدراسة الظواهر والسلوكيات، وكثيراً ما سمعنا بهذا المُنحنى الذي يشبه الناقوس عند رسمه. من أشهر تطبيقات هذا المنحنى تقييم الطلاب والعمال وغيرهم لكي يحقق التقييم نوعاً من العدالة في النتائج. إذ أن منتصف هذا المنحنى يمثل معظم الدرجات، والأطراف «الذيول» تمثل الحالات الأقل أو القيم المتطرفة وهي تمتد إلى ما لا نهاية.

إذا أردنا تقييم التميزْ بين مجموعةٍ من الطلاب سوف يمثل منتصف المنحنى الأشخاص متوسطي التميز وسيكونون الأغلبية، وكلما اتجهنا للأطراف تقل نسب الأشخاص بحيث يتجه الأشخاصُ شديدي التميز «الموهوبين» في الإتجاه الموجب والأشخاص محدودي التميز «الفئات الخاصة أو التخلف العقلي» في الإتجاه السالب. ولعلك إن كنتَ في المرحلة الثانوية رأيت أن الطلاب الذين حصلوا على درجاتِ العشر الأوائل كانوا فقط عشرة ولم يكونوا مائة من آلافِ الطلاب أو الطالبات، ومن لم يحالفهم الحظ في النجاح كانوا أيضاً قلة، ولكن توزعت الدرجات فكلكم ربما حصل على درجةٍ أقل أو أكثر من غيره.

كل هذا يعني أن احتمالية تميزك وحصولك على درجاتٍ أكبر في الدراسة أو في العمل أو في المال لن تتأتى دون جهد ومعظم الناس في الحياة يعيشونَ في المعدلاتِ الطبيعية من الثروة والعمر والحصول على الفرص إلا إذا ابتعدوا عن تكدسِ التوزيع نحو الإتجاه الموجب وليس السالب، إذ أن الحصول على لا شيءٍ في الحياة والموت لا يتطلب أي جهدٍ أو مهارة.

من الجيد أن يكون الفرد منتمياً للجماعة وغير مبتعدٍ عنها فيما يقتضيه ذلك الإنتماء، وليس هذا يعني أن تذوبَ خصائص الفرد وميزاته. بل المطلوب أن تقوى الجماعة من الفرد الذي هو نواتها ومنبعها. اختفت الأيام التي كنا ننظر نشراتِ المذياع في الصف السادس الإبتدائي حتى نسمع أسماءنا في قائمةِ الناجحين، والسهر حتى الفجر للحصول على نسخةٍ من الجريدة الرسمية لمعرفة إن نجحنا وكم كان مجموع درجاتنا، ولكن هذا لا يعني تغير أهمية هذه الصفوف والمستويات الدراسية التي هي الآنَ قد تحدد اتجاهاتنَا المستقبلية بكل تفاصيلها...

مستشار أعلى هندسة بترول