آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:12 م

لعلكم تتقون «4»

الصوم ذو أبعاد ثلاثية:

ورد عن أمير المؤمنين : صوم الجسد الإمساك عن الأغذية بإرادة واختيار خوفا من العقاب ورغبة في الثواب والأجر، صوم النفس إمساك الحواس الخمس عن سائر المآثم، وخلو القلب من جميع أسباب الشر». «مستدرك الوسائل ج 7 ص 367».

الغاية المتوخاة من فريضة الصوم هو صناعة الإنسان في عملية شاملة لفكره وقوة إرادته، فالإمساك عن الطعام والشراب وبقية المفطرات إعداد للنفس وتهذيبها على الترفع عما حرم الله تعالى، والوقوف عند تلك الحدود فلا يتخطاها ولا ينصت لصوت الإغراء والتزيين لارتكابها، وهذا ما ينعكس على فكر واع يستشعر المخاطر لعواقب الأمور فيقدم الرؤية المنطقية على مجازفة الأهواء وعمى اتباع الشهوات، فتتجلى الاستقامة السلوكية من جوارحه إذ تصوم العين عن نظرة الحرام، والأذن عن استماع آفات اللسان كالغيبة، واليد عن الامتداد الجائر على حقوق الآخرين.

وتستمر رحلة التهذيب والسمو إلى نقطة حساسة جدا ألا وهي المشاعر الوجدانية وتوجيهها وفق الضبط والعقلانية، إذ انفلات الأمور وإطلاق العنان لقلوبنا لتصنع ما تشاء في لحظات الانفعال والغضب يدخلنا في دائرة الخطايا، فيمارس القلب عملية سلبية بتوطين الكراهيات والأحقاد وتجاهل الآخرين واستنقاصهم لمجرد سوء فهم أو احتكاك حواري، فيأتي الصوم ليضعنا على سكة الفطرة الداعية إلى الوئام والإخاء واحترام الآخرين، وتجنب الدخول مع الآخرين في معارك جانبية وخلافات ينجم عنها القطيعة، فكل توتر أو انزعاج يمكن معالجته بدون توجيه المشاعر نحو السلبية والبغضاء، والشهر الكريم فرصة سانحة لتصفية الخصومات والخلافات حيث تهدأ النفوس وتنقى في وسط الأجواء الروحانية، والغاية المؤملة هي قوة إرادة على مستوى البدن بالإمساك عن المفطرات، وقوة إرادة على مستوى النفس والانزجار عن التفكير في الآثام والارتداع عن مقاربة أسبابها والسبل المؤدية إليها، وقوة إرادة على مستوى القلب فلا يحول علاقاته وحواراته إن حدث خلاف إلى مرتع للكراهيات واصطناع الحواجز.

والمؤمن لا يواجه مهمة سهلة في الامتناع عن المفطرات ذات الأبعاد الثلاثية بمفهومها الشامل للبدن والنفس والقلب، بل يحتاج مع قوة الإرادة للتحلي بالصبر وتحمل مسئولية المواجهة مع المغريات والدوافع السلبية، فيتحكم في نفسه ويضبطها وفق الشارع والعقل لا الأهواء المتفلتة في كل اتجاه.

وهذه الصناعة والتزكية لنفسه وجوارحه تعود عليه بالنفع على مستوى علاقاته الأسرية والاجتماعية، فجارحة اللسان - مثلا - لا يمكن التكهن بويلات انفلاتها واعتدائها على الآخرين بالكذب والشتم والغيبة والنميمة والفتن والانخراط في الاحترابات، فالمعارك الكلامية محرقة للحسنات والصفات الجميلة التي يتحلى بها الفرد، وتحوله إلى فوهة مدفع متحفز لتوجيه نيرانه باتجاه كل من يختلف معه، وتحرمه من تعطير لسانه بعبق تلاوة القرآن الكريم والأدعية وكنوز الحكمة للمعصومين ، فاللسان الذي يستوطنه الانفلات يفتقر إلى انضباط المنطق والعقلانية.

إنها ساحة جهاد النفس تجاه ميولها المتفلتة ومشاعرها السلبية وغلبة العقل على الشهوات، والانتصار الحقيقي الذي يحققه الإنسان هو الغلبة على ما يسقطه في وحل المحرمات والقبائح، فالحياة محطات اختبار وابتلاء بمختلف المغريات والأهواء، وفي كل مواجهة يختبر قدرته على الممانعة وكبح جماح النفس، فإن استطاع الانتصار واجتنابها حقق نجاحا مرحليا، وإن ضعفت نفسه واستجابت لنداء الشهوة تسلح بالتوبة ومعاودة المواجهة مجددا.