آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

شهر العافية: 8 - التأثيرات السلبية للتقنية

محمد حسين آل هويدي *

بسم الله الرحمن الرحيم -... «101» وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ «102»... - صدق الله العظيم - البقرة.

على الأرجح أنت تقرأ هذه المقالة من خلال شاشة هاتفك الذكي الذي أصبح قطعة لازبة «لا غنى عنها» في هذه الحياة العصرية. أصبحت الإنترنت وأدوات التواصل منتشرة وجزءا لا يتجزأ من الحياة العصرية حتى غيرت عاداتنا وخبراتنا ونظرتنا للحياة ومعرفتنا. لكل شيء إيجابيات وسلبيات. للأسف، عادة البشر سوء الاستهلاك، ومن ضمن ذلك الانغماس في استخدام هذه الآلات التي تضخ هرمون الدوپامين «dopamine» في أدمغتنا. هذا الهرمون يبعث على الراحة والسعادة، لذلك يسهل للإنسان أن يدمن على التقنيات الحديثة حتى وإن أضرت بأمور أكثر أهمية، ومنها الصحة والمقربين. ومن أخطر الأمور أن تعزلك هذه التقنيات عن الواقع وتجعلك أڨتارا «خيالا» في عالم افتراضي لا وجود له على أرض الواقع.

سهولة الحصول على الشيء تقلل من قيمته. تخيل أن الدنيا مليئة بالذهب بدلا من الرمال؛ حينها، ستكون الرمال أغلى من الذهب. نفس المنطق ينطبق على المعلومة التي ترخص مع سهولة الوصول إليها. في حياتنا الجامعية، كنا نراكض من قسم إلى آخر في المكتبة وغيرها في سبيل الحصول على أي معلومة تخدمنا في أبحاثنا، وقبلنا كان طلاب العلم يسافرون من مكان إلى آخر في سبيل توثيق معلومة؛ لذلك، حينها كانت المعلومات غالية جدا. اليوم، المعلومات المتناثرة أكثر مما يتحمله دماغ الإنسان وأصبح لا قيمة لها لأنها تأتي بضغطة زر. مع سهولة الحصول على الأشياء «أي شيء» تصبح الحياة ذاتها بلا قيمة لأن الإنسان يشعر بأنه لا ينجز ولا ينتج؛ حينها، يدق ناقوس الخطر إذ تتعجب من أن مشهورا وغنيا قد انتحر فجأة وبدون مقدمات، وعلى سبيل المثال داليدا التي انتحرت عام 1987م.

في صيف 2002م، استعنتُ بالخريطة الورقية لأسافر مع سيارة مرافقة من تورونتو إلى مونتريال في كندا في قرابة ست ساعات. عندما وصلنا عند باب وجهتنا بالضبط، سألت أختي التي كانت في السيارة الثانية؛ هل أتيت إلى هنا من قبل؟ لم أذهب إلى ذلك المكان من قبل، ولكن الخريطة والخبرة تساعد كثيرا في الموضوع. في ربيع 2016م، سافرت عبر الولايات الجنوبية الغربية بالسيارة. وفي منتصف صحراء أريزونا، تعطل جهاز الخرائط في السيارة ولم تكن هناك إشارات خلوية لتفعيل برامج الخرائط في هاتفي الذكي؛ يا للورطة. اعتمدت فيها على حدسي الذي ضعف حينما جن الظلام. قبل الأدوات الحديثة، كنا نأخذ خريطة الطرق ونجوب الشوارع دون إشكال. لا أظن أن الجيل الجديد قادر على استخدام الخرائط الورقية لأنهم ليسوا مضطرين. لكن سابقا، كنا نعرف وجهتنا وأي طريق نختارها بإرادتنا وكانت خيالات الشوارع والأماكن في أذهاننا. اليوم، الإرادة ضعفت والتخطيط انتهى، وهذا يعطل أجزاء مهمة من الدماغ البشري. هذا بالإضافة أن الاعتماد على التقنية يفقد حلاوة الإنجاز كما حدث لي عام 2002م في كندا.

التقنية الحديثة تجعلنا أقل اعتمادا على أنفسنا وتمنعنا من مواجهة مشاعرنا. الحصول على إنجازات يدوية أو ذهنية مهم وضروري للإنسان. عمرنا يقارب 300 ألف سنة. جيناتنا تعودت على نمط من الحياة وأدمغتنا تكيفت على ذلك. أجسادنا وأدمغتنا ليست مؤهلة لهذا التغيير السريع، ومنها ستتأثر الأجساد والنفوس بطرق سلبية؛ لا محالة. الإنسان بحاجة للوصول إلى جوهره من خلال المحاولة والتجربة، وإذا سدت التقنية حاجاتنا اليومية انسدت معها طرق الوصول إلى الجوهر.

طرق التواصل القديمة كانت بطيئة. اليوم، سريعة جدا وتجعلك على أعصابك في الأربع والعشرين ساعة على مدار الأسبوع. في كل لحظة تتوقع رسالة، وهذا يجعلك تراقب هاتفك بصورة مستمرة حتى وإن كنت نائما، ومن أكبر الخطأ أن تأخذ هاتفك الذكي معك في غرفة النوم. اتركه خارجا وذلك لأن الوميض الأزرق الذي يصدر منه يخدع أحاسيسك ويعطل إفراز الميلاتونين الضروري للنوم والتي لا يأتي إلا مع حلول الظلام. الضوء الأزرق يوحي لجسمك أن النهار قد أتى، ومنها يرفض النوم ويوقف ضخ الميلاتونين، وهذا يجعل عادات نومك مضطربة.

استخدم التقنية بأقل ما تستطيع وللضرورة فقط ولا تجعل نفسك معتمدا عليها أكثر من اللازم ولا تجعلها تتحكم فيك وتؤرق مضجعك وتخرب علاقاتك؛ حتى الأسرية منها. استخدمها باعتدال إذ جعلنا الله أمة وسطا، ومنها وجب علينا تطبيق هذه الصفة لمصلحتنا الخاصة والعامة.

1. Sven Birkerts «2015». Changing the Subject: Art and Attention in the Internet Age. Graywolf Press.

2. Dean and Anne Ornish «2019». Undo It!: How Simple Lifestyle Changes Can Reverse Most Chronic Diseases. Ballantine Books. https://www.goodreads.com/book/show/40130282-undo-it

3. محمد صالح «2018 - 05 - 03». ذكرى داليدا ولعنة الانتحار. https://arabic.rt.com/culture/941879-لغز-داليدا-ولعنة-الانتحار/
سيهات - دكتوراه في علوم الحوسبة و باحث وكاتب مستقل