آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

شهر العافية: 17 - والقمر قدرناه منازل

محمد حسين آل هويدي *

بسم الله الرحمن الرحيم -... «65» قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَن «66» مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ «67» أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ «68» أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ «69» أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ۚ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ «70» وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ «71»... - صدق الله العظيم - المؤمنون.

إن شاء الله نكون جميعا ممن يقرأ القرآن في شهر رمضان المبارك وممن يستمع القول فيتبع أحسنه. في الجزء الثامن عشر ثلاث سور مباركة أدعوكم للتدبر فيها وقراءتها بروية وتأنٍ؛ المؤمنون، النور، والفرقان. بنظرة سريعة للآية الافتتاحية وهي أن الآيات تترا ولكن الاِعراض مستمر ودون هوادة. الآية هي ذلك الشيء الذي تدعمه الأدلة، وأفضل الدليل ما يؤيده العلم لأن العلم حجة على الجميع منذ الانفجار إلى يوم الدين. الناس لا تريد أن تتدبر لأن أباءهم لم تفعل من قبل. الأمي لا يلام كثيرا في التدبر لأنه قد يكون عاجزا ولا يمنع أن يكون أمي أكثر هداية ممن يقرأ، ولكن في الغالب، وحتى المتعلمون، يرجحون آراء آبائهم «وأجدادهم الأولين» حتى وإن كانوا لا يعلمون. المعرفة تتطلب انشراح في القلب وعلم يساعد. الرسول ﷺ يأتي بالحق من كل جانب ولكنهم يجيّرون الأسباب لنكرانهم، وهذا طبع البشر؛ كراهية الحق. الحق قانون لا يحيد، وبه خلق الله السماوات والأرض، ولو اتبعت هذه القوانين أهواءهم وتصوراتهم لما قامت السماوات والأرض. ولكن يبقى المعاندون معرضون عن الحق ويميلون إلى الباطل الذي ورثوه من آبائهم الأولين بكل إصرار وعناد.

درس علماء النفس والاجتماع أسباب العناد والصد وابتكار الأسباب لقناعة النفس بما ربت عليه. في ذلك، قال ليونارد مْلوديناو إن الإنسان يتكون من شعور ولا شعور. الشعور هو الكيان العالم لدى الإنسان والذي يزن الأمور بموضوعية. اللاشعور هو الكيان المحامي للفرد والذي يُقْدِم على الأمر مسبقا ثم يقوم بالتبرير للاختيارات لاحقا بتفانٍ ليس له نظير، وبما أن اللاشعور أقوى، تطغى التبريرات على الموضوعية والعقلانية. وضرب مْلوديناو بعلماء فلك كانوا يظنون بأن الكون ثابت وساكن ولا بداية له ولا نهاية، ولكن وبالرغم من وجود الدليل العلمي الذي يؤيد التوسع إلا أنهم أصروا على رأيهم وأخذوا ينافحون عنه لمدة لا تقل عن ثلاثين سنة، فإذا كان هكذا يفعل العلماء، فحينها نتذكر صبر الأنبياء على معانديهم الجهلة، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

الكثير من العلماء يؤيدون ما يقوله مْلوديناو، وفي نفس الأمر يقول داوود مكراني إن البشر يظنون أنهم منطقيون وعقلانيون، ولكن الأبحاث المستمرة تقترح غير ذلك وأن البشر لا يعرفون كثيرا لماذا هم يتصرفون بهذه الطرائق الذي يتحكم فيها عادة اللاشعور. البشر في العادة يوهمون أنفسهم ويصدِّقون هذه الأوهام ويدافعون عنها حتى الموت. وبدون أن نعي، نحن نخترع قصصا لنبرر فقط لمشاعرنا بعيدا عن الموضوعية. نحن فقط نسعى وراء لما يكرس قناعاتنا ونُشِيحُ وجوهنا عما يتحداها. نحن نسعى وراء التأكيد وليس الحقيقة «confirmation bias». الدراسات توضح أن الناس تقضي أكثر أوقاتها في قراءة ما يؤيد ويرسِّخ قناعاتها ولذلك هم لا يتعلمون الكثير. الناس تسعى وراء التأكيد لا الوصول إلى المعلومة «People seek confirmation، not information». حتى الذاكرة، تميل إلى التأكيد وتخدع نفسها، وفي ذلك ناقشنا أمرها في المواضيع السابقة. مكراني يستدل بالكثير من التجارب في هذا المضمار، حتى قال: بدون أن نشعر، نحن دائما نسعى وراء معلومات تؤيد قناعاتنا المسبقة بينما نتجاهل الرأي الآخر الذي يخالفها، ومنها تزداد القناعات رسوخا وإن لم تستند على براهين موضوعية. ويقول إن للاشعورنا قوة هائلة يصعب كبح جماحها ولكننا لا نشعر بذلك إطلاقا وحينها نترك اللاشعور يتحكم فينا حسبما يشتهي.

ما علاقة القمر بالموضوع؟ البارحة كان الاحتفال بالناصفة وحاولت أن أرى البدر فغم عليّ مبدئيا بسبب الضباب، ولكن في الساعة الثانية بعد منتصف الليل رفعت رأسي لأراه فإذا به ليس بدرا ورجعت البيت لأتحرى بالاستعانة بما يقوله العلم واتضح أن نسبة سطوعه 95% وأنه كان ساطعا 100% قبل البارحة بليلتين. وهذا يعني أن البدر كان قبلها بليلتين. العلم يقول إن عمر القمر البارحة وبحسب أفقنا أكبر من 16 يوم. لاحظ أن هذا قرار العلم وليس رأيي أنا. عرضت الموضوع، وكالعادة، المعترضون أكثر من المؤيدين، وأكثر المعترضين يعترضون على شيء لا يفهمون في الكثير، ومن يفهم أثّرَت فيه القناعات المسبقة لإيهام نفسه. وقد يكون من يفهم الموضوع على صواب، ومن واجبه تصحيح الأغلاط التي وقع فيها العلم الذي أخطأ في يوم من حساب أطوار القمر في هذه السنة.

للأسف، تقول ”قال الله“، فيرد ”قال فلان“. تقول ”أثبت العلم“، فيرد ”اجتهد فلان“. الاجتهاد رأي، والرأي لا يمكن له أن يصمد أمام الحقائق العلمية، خصوصا إذا اتضح وبالضرس القاطع أن أهل الرأي لا يتفقون فيما بينهم؛ حينها، يظل الرأي رأيا لا يعني الصواب ويعتريه الخطأ. لا يمكن حل القضايا العلمية من خلال تراث روائي، والإصرار على ذلك في هذا الزمن سيزيد الأمور تعقيدا وسيتضرر الجميع حتى أولئك الذين يهملون العلم ويصرون على آرائهم لأن الجيل الجديد الذي هو على معرفة بالعلم أكثر من الأجيال السابقة وأكثر من أصحاب الآراء لن يقف وينتظر كي يلحق الأولون بالركب. سيمضي في سبيل الله إلى وجهة مختلفة عما خطه له الأجداد. الحق يعني الصحة والدقة. الحق مجافٍ للتخبط.

1. McRaney، David «2012». You are Not So Smart. Gotham Books.

2. Mlodinow، Leonard «2012». Subliminal: How Your Unconscious Mind Rules Your Behavior. Vintage.
سيهات - دكتوراه في علوم الحوسبة و باحث وكاتب مستقل