آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 1:42 ص

في اللغة والتاريخ

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

في مقال سابق، قدمنا تعريفاً مبسطاً للغة، أشرنا فيه إلى أنها نظام له وظيفة وغاية محددتان، هما التعبير والتواصل. وتعتمد اللغة على وسائل معينة لبلوغ أهدافها. وقد أولى الإغريق اهتماماً كبيراً بموضوعها، حيث ناقش أفلاطون علاقة الأشياء بالأسماء. وأوضح أن الاسم انعكاس وتعبير عن المسمى، وهو مشتق من مكوناته وتركيباته. والقصد من ذلك هو أن الدال باستطاعته محاكاة المدلول، والتعبير عنه. ذلك يعني تاريخية اللغة، وعدم سكونها. فهي كما مختلف الشؤون الاجتماعية، خاضعة لقانون الحركة.

إن القول بتاريخية اللغة يعني، فيما يعنيه، أن علاقة اللغة بالأفراد الناطقين بها، ليست مجرد أعراف وعادات وتقاليد، ولكنها علاقة عضوية، إذ إن الكلمات والجمل في حقيقتها، تعبير غير جامد، لكونها تعبر عن صورة الأشياء في زمان ومكان محددين، وبالتالي فإن الصيغ اللغوية هي تعامل وتفاعل، مع بيئة محددة بذاتها. وهي تتغير وفقاً لتغير الزمان، كما تتغير الكثير من الأشياء.

وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن اللغات ليست سابقة على التاريخ، أو صانعة له، بل هي نتاجه. ذلك أن المجتمعات التي تشعر بهوية واحدة تقوم بصياغة لغة خاصة بها، تحقق من خلالها تواصلها، وتمكنها من التعبير عن ذاتها، كي تمارس إبداعاتها وعطاءاتها الإنسانية، ولتميز، بشكل حاسم، بين هويتها وهويات شعوب الأمم الأخرى.

لكن ذلك، كما أسلفنا، ليس نهاية المطاف، ذلك أن التفاعل الإنساني الذي يحدث بسبب من تمازج الحضارات، مع بعضها بعضاً، بطريق الاتفاق، أو القسر، يمكن أن يؤدي إلى انتشار لغة الحضارة المهيمنة في بقاع جديدة غير تلك التي انبثقت منها، مساهماً في خلق واقع موضوعي جديد، تنتج عنه هزيمة البنية الاجتماعية السائدة من قبل، وقيام أخرى على أنقاضها.

ذلك هو واقع الحال عبر التاريخ، فلغة القوة هنا أيضاً تفرض سطوتها، وجبروتها. فأثناء سطوع نجم حضارة العرب انخرطت أقوام غير عربية في أمة العرب، وباتت شعوبها من الشعوب الناطقة باللغة العربية، كما هو الحال الآن في الأرض الممتدة من الخليج العربي شرقاً، إلى المحيط الأطلسي غرباً. وهناك أمم تخلت عن اللغة العربية، بعد تراجع حضارة العرب، كما هو الحال، في إسبانيا، والهند، وإيران، وتركيا.

لقد استعادت هذه الأمم لغاتها القديمة، لكن ليس بصيغتها الأصلية، بل وفق شروط وضرورات زمنها الحديث. وبقي جزء من الموروث اللغوي العربي حاضراً حتى يومنا هذا في اللغات التي أعيد بعثها.

إن لغة القوة تفرض قوة للغة الاحتلال. وقد رأينا ذلك واضحاً في المستعمرات بالقارات الثلاث: آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية. فاللغة الفرنسية لا تزال الأولى، وفي بعض الأحيان الثانية، في المستعمرات الفرنسية، بالجزائر والمغرب وتونس. أما حيث هيمن البريطانيون، كما في الهند وباكستان، وبعض الأقطار العربية، فإن الإنجليزية هي اللغة الأولى، أو الثانية في تلك البلدان. وهو واقع يؤكد أن اللغة، كما أوضحنا، هي نتائج التاريخ، وليست صانعته.

ويتعرض الدكتور طه حسين في كتابه الأدب الجاهلي، لموضوع اللغة، في معرض نفيه لتبعية المعلقات السبع لزمن محدد. ويستدل على ذلك بتغير المفردات والجمل، وعدم تبعية بعضها لما عرف في الأدب العربي بالعصر الجاهلي. ويسوق مثلاً على ذلك، معلقة طرفة بن العبد «لخولة أطلال ببرقة ثهمد»، حيث تنتسب مفردات أبيات القصيدة الأولى لزمن، غير الزمن الذي تنتسب له الأبيات الأخيرة. ومن خلال هذا السجال، يتوصل عميد الأدب العربي طه حسين، إلى أن الكثير من الشعر العربي، الموصوف بالقديم، هو شعر منتحل، قيل في غير الزمن المنسوب إليه.

خلاصة ما نتوصل له في هذا السجال، أن لكل زمن مفرداته، وأساليبه، وطرقه الخاصة في التعبير، وفي هذا السياق، يشير الكاتب البريطاني، إريك هوبزباوم في كتابه «عصر الثورة، أوروبا «1789 - 1848»» الذي يناقش مرحلة الثورتين الفرنسية والإنجليزية، والصادر باللغة العربية، عن المنظمة العربية للترجمة، وقام بترجمته الدكتور فايز الصباغ، إلى أن الكلمات تتضمن في معظم الأحيان شهادات أعلى وقعاً من الوثائق. ويسرد الكاتب للتدليل على أطروحته هذه عدداً من الكلمات التي اختزلت، أو اكتسبت معانيها الجديدة، أو برزت خلال قرون ما بعد الثورة الصناعية، مثل الصناعة، والصناعي، والمصنع، والطبقة العاملة، والرأسمالية، والاشتراكية، والأرستقراطية، والسكة الحديدية. كما يتعرض الكاتب في هذا الصدد لبعض التعابير السياسية، من نوع الليبرالية، والمحافظ، والليبرالي، والجنسية والمهندس، والبروليتاري، والأزمة الاقتصادية. كما نجد مسميات مثل النفعي والإحصاء ومصطلحات عديدة في اللغة الحديثة، مثل الصحافة، والأيديولوجيا، وجميعها كلمات نحتت أو عدلت خلال الفترة التي أعقبت الثورة الصناعية، شأنها شأن مصطلحات أخرى، من نوع الإضراب، والإملاق، والتضخم والكساد.

وإثر كل ثورة علمية تبرز قوائم جديدة، غير معهودة من الكلمات والتعابير، لعل الأبرز منها في زمننا، هو ما ارتبط بالثورة الرقمية والإلكترونية. وقد وضع معظمها، قيد الاستعمال، في جميع أنحاء العالم، في مختلف اللغات. واكتسبت دلالاتها، على هذا الأساس، على الصعيد الدولي. وفي هذا السياق، يوضح الدكتور فايز الصباغ أن مصطلح السكة الحديدية، استعاد دلالاته الحرفية، في جميع أرجاء المعمورة، باستثناء موطنه الأصلي بريطانيا، حيث ما زال يسمي «الطريق الممهدة بالقضبان».

ويبقى الربط بين اللغة والتاريخ، مؤشراً لقياس مستوى التقدم والتطور في الأمم الحية. بمعنى أن عدم التسليم بعلاقة اللغة بالتاريخ، هو دعوة للانعزالية، وعدم اللحاق بالعصر الذي نحياه.