آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 12:26 م

ضجر وتبرم‎

ورد عن أمير المؤمنين : «.... وَرَضِيَ بِالذُّلِ مَنْ كَشَفَ عَنْ ضُرِّهِ...» «نهج البلاغة ص 768».

ما أعظمها من دروس تهذيبية للنفس ورافعة لمستوى الوعي والفهم لحقائق الأمور نتلقاها من أمير المؤمنين ، إذ يفصح لنا عن اشتقاقات مفهوم الذل والهوان وتعدد صوره وأشكاله في تصرفاتنا وعلاقاتنا بالآخرين، فإذا كان أجلى صوره هو الاستسلام والانقياد لغير الأوامر الإلهية سواء كان ذاك الاتباع للأهواء والشهوات وسلطة المال أو سطوة الظلمة الجائرين، فإن من تلك الصور التي يفصح عنها هي التحدث أمام الجميع ومن هب ودب عن ضيق معيشته وما يواجهه من صعوبات وظروف قاسية من مرض وغيره، فشتان ما بين الفضفضة عند صديق محب ما يعلو نفسه من هموم وأزمات يمر بها، ويحتاج إلى دعم نفسي يعيد له هدوءه واتزانه الفكري والوجداني، فيلجأ إلى من يثق به ليخفف عنه تلك الضغوط الحياتية ويشاركه البحث عن الحلول والمخارج، وما بين قلب مفتوح لا يتوقف عن التبرم والضجر والتشكي من مجريات حياته وأحواله فلا يبدي قناعة وتقبلا لها، فما إن يسأله أحدهم عن أحواله إلا ويسرد تفاصيل التفاصيل، إنه كتاب مفتوح يقرأ صفحاته وجميع سطوره من يشاء بدون وجود خصوصية لشيء من واقعه، فالفضفضة سمة إيجابية تزيح غبار الركام الذي يمنعنا من رؤية ما حولنا، وأما التشكي فيبذر في النفس حالة الضعف والهوان وسكب ماء الحياء من وجهه، فلا يشعر بحجم سقوطه من أعين الناس الذين يرون فيه ضعف الشخصية واهتزاز ثقته بربه وبنفسه، فإن الشخص الكريم لا يرغب يوما في الظهور بصورة ذليلة يستعطف بها الناس بسرد معاناته.

وبالطبع فإن صعوبات الحياة والمشاكل قانون وسنة إلهية يختبر الباري عز وجل منها إيمان المرء وقدرته على تحمل المعاناة من عدمها، فما يلقاه من أزمات يعاني منها غيره مع تعددها والاختلاف الحقيقي يكمن في كيفية مواجهتها والتعامل معها، فهناك من يتحمل مسئولياته ويواجه التحديات بكل اقتدار وصبر، وأما التشكي من المصاعب فمؤشر لضعفه ولا يمكنه أن يظفر بصديق مخلص وقد تخلى عن كرامته، فالشخصية القوية لا تنحدر يوما إلى مهوى المذلة واسترخاص النفس واستدرار العواطف بإظهار المسكنة.

ويوجهنا أمير المؤمنين إلى الطريق القويم في التعامل مع المشاكل بتقبل واقع تمتزج فيه ألوان السراء والضراء فلا تصفو مشارب الدنيا ولا راحة من بلائها، والصعوبات محطات اختبار لا يمكن تجاوزها إلا بالصبر وتحمل المتاعب ومواجهتها باقتدار.

ومن مقومات الصبر التخلص من صفة التشكي وتفلت اللسان الذي لا يتوقف عن سرد الآلام، وإن كان هناك من هم وحزن يجثم على فؤاده بسبب المشاكل فليتوجه إلى محراب المناجاة وبث شكواه وأحزانه إلى بارئه؛ ليتلطف بحاله ويرفع عنه آثار تلك المتاعب التي يعاني منها، والتشكي للصديق المخلص يحمله هموما فوق مشاكله فيغتم أكثر وأكثر.

وما أعظم ذاك المرء الذي يحول صدره إلى صندوق أسرار يحمل الكثير من المضايقات والآلام دون أن يبثها لأحبابه خوفا عليهم من الكدر، فمن يرى بشاشة وجهه وابتسامته الدائمة يظنه طرازا فريدا من البشر لا يواجه مشاكل في حياته، والحقيقة أنه كبقية الناس يعاني من أحزان وعراقيل ومتاعب ولكنه لا يطلع الآخرين عليها إلا في حالات قليلة.

والخلاصة أن الشكوى للناس بغية الحصول على تعاطفهم معه نحو من أنحاء المذلة التي لا تليق بالإنسان الحر الكريم، إذ يرى في التشكي مما يواجهه من آلام نفسية أو جسدية أسلوبا خاطئا لا يليق إلا بمن ارتضى المسكنة والهوان، وإن يوما أثقل قلبه بالهم توجه إلى ربه يشكو ضعفه وأحزانه.