آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

الطبعُ والروح

فليسامحني أبي وأمي وكل آباء وأمهات جيلي ومجتمعي الذينَ يعرفون المثل ”لا يخرج الطبعُ حتى تخرج الروح“، إن قسوتُ عليهم وقلتُ هم من زرعوا الطباعَ فينا، ونحن من زرعها في أبناءنا وبناتنا. زرعوا فينا المحبةَ لكنهم لم يعلمونا كيف نبديها، وكلما سألناهم هل تحبوننَا؟ كانوا يقولون: ألا ترونَ أننا نحبكم؟ وكأنَّ المحبةَ يجب أن تظهر في العينِ وكل جوارح وأدواتِ الجسدِ دونَ اللسان!

نحن رجالُ الماضي والحاضر في مجتمعنا نحترمُ الشاربَ الذي لا يلين، الشارب الذي كله أفعالٌ وليس أقوال. ليس مسموحاً لنا ولن نستطيعَ في طبعنا أن نقولَ كلمة ”أحبك“، أو ما يوازيها في قواميسِ اللغة. نساءنا كانوا يلفن وجوههم بالسواد ويصمن آذانهم عن الخنا والفحشِ في الكلامِ عندما جاءت الشاشةُ الفضية ”التلفاز“، وجاءَ معها من يمثلونَ الحبَّ والشهوة، ويربطونَ كل حبٍّ بالغريزةِ والخطيئة، حتى أصابَ معظم النساءِ قصورُ اللغةِ الرقيقة والجذابة التي يتداولها أزواجُ وزوجات المجتمعاتِ الأخرى. لغةُ الحب لا ترتبط بالفقرِ والغنى، أو العلمِ والجهل، ولكنها ترتبط بالعاطفةِ التي تتشكل في الوجدان، ويقذفها القلبُ جملاً شاعريةً من أطرافِ اللسان.

تبلدت أحاسيسُ الحب عندنا فاعتبرنَا كل شاعرٍ يذكر الحبَّ العذري والفتاةَ فاسقاً أو كادَ أن يكون! ولم يزل غريباً عندنا أن نرى ونسمع أزواج وزوجاتِ المجتمعاتِ الأخرى التي لم يطرق الدينُ لها باباً يُنهون كل محادثةٍ بكلمة ”أحبك“، وكل جيئةٍ وذهابٍ بقبلة! في مقابل رقة المجتمعاتِ الأخرى، أنا وأبناء الزمنِ والمجتمع الذي كبرتُ فيه لا بد أن ننهي كل محادثةٍ تقريباً في شجارٍ أو صراخ، وربما عراك! وسهل علينا لغةُ الشتائم.

فليسامحنَا أولادنا وبناتنا، إذ لم نستطع التخلصَ من قسوةِ وجفوةِ الكلام في جيلٍ واحد، وتركنا لهم ثقلَ الحمل أن يزرعوا بعضَ التعابيرِ الجميلة ويعرفون أن ليسَ كل كلمةِ ”حب“ يرادفها كلمةُ ”خطيئة“ أو ضعف. وعليهم أن يتعلموا أن يضع الإبنُ والبنتُ أيديهم على كتف أمهاتهم وآباءهم ويقول: ”أحبكِ أيتها العجوز“ أو ”أحبكَ أيها العجوز“ دون أن يكون ذلك قلةَ ذوقٍ في المعاملةِ والبر، فليس البر إلا ما طابَ للمبرور!

تمر الأيامُ ويزداد البشرُ جفاءً وتمتلئ قواميسهم بكلماتِ الكرهِ والحربِ والبغض من نواةِ الأسرةِ إلى ما هو أبعد! أنتم أيها الصبيان والصبايا لا تكرروا خطايانا، ومسموحٌ لكم أن تقلدوا المجتمعاتِ الأخرى وتنشروا لغةَ الحبِّ والسلام بينكم دونَ مواربة، إلا أني كون ذلكَ في خطيئةٍ فهي ليست لكم.

أسرف من عاش الزمن الذي عشته في كل شيء تقريبا، الأكل والشرب والطوب واستهلاك كل ما يمكن استهلاكه إلا العواطف أحببنا توفيرها والإحتفاظ بها لأنفسنا دون أن نشاركها من نحب، هذه واحدة من خطايانا.

مستشار أعلى هندسة بترول