آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

إلى الصديق الخارج من طفولته 1

أثير السادة *

ها أنت تعبر الطريق مرة أخرى إلى بيت جدك، مهد طفولتك التي تأرجحت بين الهواء العابر من أزقة الحي، صورتك الأولى التي رسمت أول الأفراح على وجنة أبيك، كنت الجسر الواصل بين ضفتي الحلم لأبوين تضرعا مرارا للحظة التي ستحط فيها على عتبة الأمل.

ستتذكر ألوان الجدران التي كانت تظللك في ساعات الظهيرة.. والسماء التي كثيرا ما استسلمت لوهج الشمس، فمن شرفتك المفتوحة على رغبة التحليق كنت تلوح للريح، تصنع جناحين يهيمان في اتساع الفضاء، ملامحك الصغيرة تشعل كل دروس الطفولة، عينان تطارد الأشياء الصغيرة، يد تفتح كل الأدرج المغلقة، وساق لا تمل الحركة في كل الاتجاهات.

ستحيط بك ذكريات التحديق في وجوه العابرين، مزدحمة دائما بالحزن والفرح، بالشرود والذهول، تتهجى الفوارق في ملامح الناس، لتعود وترسم ملامح الطفل المبلل بماء البحر، مزاجه يتقلب كالمد والجزر، فيحب الضوء حيناً، ويكره حيناً أخرى، يحب تصارع الأصوات في فضاء الحي، ويكره الضجيج المندلع في زحام المناسبات.. هو أنت ذلك الطفل الزاهد في بهجة الحلوى، والراكض بأقدامه إلى مسالك اللعب.

ساعة غادرت الحي صغيرا كنت تظن بأن الطفولة قد غادرت، اقتادك البعد عن المكان إلى مطاردة ساعات الليل، حتى صارت خزانة مشاعرك، تحاول فيها أن تروض الأسئلة التي تزاحمت على ضفاف روحك، بعيدا عن شوارعك التي كانت تحرس أنفاسك، وتهبك الدفء والأصدقاء وخرائط الكون.. الليل كان جليسك وأنت تختصر البهجة في الشرود بذهنك إلى مرافئ الأمنيات..

هناك جربت الحديث مع نجمة ساهرة، تنظر في السديم وتبحث عن بريق عينيك التائه في عتمة الأفق، ها أنت تمنح الليل صلاتك الأولى، يحلو لك أن تجعل من عينيك محراباً لتراتيل مخيلتك، مفتوناً بصمت اللليل رحت تصغي للأصوات العابرة من جهاز المذياع، تتصاعد الأنغام فتغيب في حضرتها، روح أخرى تنبعث بين جنبيك، تبصر الأجراس تدق في روحك، فتحاصرك السلالم الموسيقية، تهبط من سلم لآخر وأنت تتسكع على مقامات لم تألفها إلا على رصيف الليل.

كم باباً فتحت لك تلك الأصوات التي سحرت عواطفك، وجعلتك تتأبط أول أحلامك الكبيرة، ما كنت تعرف أن الهواء يتمدد في أفواهنا، ويستحيل موجة من نغم، خلعت كل سكون الليل ورحت تدندن كلاماً لم تتيقن تماما من معناه، كنت منغمسا في لذة الاكتشاف لشظايا صوتك المخبوء، تختلط الأنفاس وهي تصيّر الحروف والكلمات ألحانا على وتر الليل، أنت الآن تحيل حنجرتك الصغيرة إلى لعبة لا تشيخ، إلى حوار بين عواطفك وعقلك، كأن ذلك النجم الساهر قد هوى نيزكا على طرف القلب.