آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 9:52 ص

الاستيعاب .. الاقصاء

محمد أحمد التاروتي *

الحراك الثقافي يعكس الحيوية التي يعيشها المجتمع، وكذلك يكشف انتشار التجديد في البيئة الاجتماعية، مما يسهم في نفض غبار الرتابة والخمول من العقول، فالآراء المتعددة تثري المشهد الثقافي، وتسهم في القضاء على الصوت الواحد، مما يكرس مبدأ الاستيعاب الجزئي او الكامل لمختلف وجهات النظر، خصوصا وان تعدد الألوان يضفي على اللوحة التشكيلية طابعا جماليا ويزيدها الروعة لدى المتلقي جمالية، بخلاف اللوحة التي تحتكر لونا واحدا، فهي غير قادرة على لفت الانتباه او إبهار العيون، وبالتالي فان المنطق العقلاني يدعو للتصالح مع الاّراء الأخرى، عوضا من التصادم او الاقصاء، نظرا للاثار السلبية على طبيعة المناخ التسامحي، لدى أصحاب الفكر.

عملية الاستيعاب للآراء الأخرى، مرهونة بوجود أرضية قادرة، على احتضان الجميع دون تفرقة او تمييز، فالأرض السبخة - كما هو معروف - غير صالحة للزراعة، مهما بذلت من جهود مضنية، واستنزفت من أموال طائلة، بينما الأرض الخصبة لا تتطلب الكثير من الجهد لحرثها وغرسها، بمختلف أنواع الأشجار، وبالتالي فان وجود الثقافة الاستيعابية امر ضروري لنشوءالحراك الثقافي في المجتمع، لاسيما وان القدرة على تقبل الاّراء الأخرى ليست متاحة للجميع، فهناك العديد من النخب الثقافية تضيق ذرعا بالنقد سواء الصغير او الكبير، حيث تترجم على اشكال متعددة وتصرفات كثيرة.

الانطلاق من قاعدة ”احتمالية الخطأ والصواب في مختلف القضايا“، مدخل أساس في تأسيس الاستيعاب لمختلف التوجهات، سواء في القضايا الصغيرة او الكبيرة، خصوصا وان الاعتقاد بعدم صوابية الاّراء الأخرى، يدفع باتجاه لانتهاج مبدأ التعصب، وعدم السماح للأصوات المنافسة على الانتشار في الساحة، مما يكرس حالة الاقصاء وتعميق الصوت الواحد في الساحة الثقافي، الامر الذي ينعكس سلبا على المستوى الثقافي السائد، نظرا لعدم وجود وجهات نظرة قادرة على إرساء قواعد للنهوض، ومواكبة التطور في المجالات الثقافية.

استيعاب الاّراء المختلفة ظاهرة صحية، حيث تسهم في تجديد الطرح الثقافي على الساحة، من خلال تناول المزيد من الأفكار النقدية، او تبني بعض التوجهات الجديدة، لاسيما وان التطور الثقافي امر مطلوب في حياة المجتمعات البشرية، ”قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ? ثُمَّ الله يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ? إِنَّ الله عَلَى? كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ“، وبالتالي فان التحرك ضمن دائرة محدودة، وعدم السماح بالخروج من الإطار المرسوم، يدمر الحراك الثقافي في المجتمع، جراء سيطرة الخطوط الحمراء على حرية الفكر، مما يقضي على التحرك الجاد لخلق واقع مغاير، لإنعاش العقول من السبات المفروض عليها، نتيجة سيطرة الفكر الاقصائي على المشهد الثقافي.

قياس التقدم في الشعوب مرتبط بالقدرة على الاستيعاب للجميع، لاسيما وان الاقصاء احد الامراض البشرية المزمنة منذ فجر التاريخ، ”من ملك استأثر“، اذ تحاول بعض النخب الثقافي تكريس الإرهاب الفكري تجاه الاّراء الأخرى، من خلال الصاق الكثير من التهم، وكذلك بث العديد من الشائعات، لتلويث سمعة حملة الرأي المخالف، بهدف السيطرة على الساحة والقضاء على الأطراف المنافسة، وبالتالي تفريع المشهد الثقافي من الأصوات القادرة، على بث الوعي في الضمير المجتمعي.

الدعو للاستيعاب لا تعني التنازل عن القناعات الفكرية، او التسليم بصوابية الاّراء المخالفة، وانما تركز على مناقشة الطرح الفكري في الميدان العلمي، عوضا من استخدام السيف والعصا لاسكات الاّراء الأخرى، لاسيما وان عملية القضاء على الاّراء بالطريقة القمعية، ليست مضمونة على الاطلاق، مما يفرض انتهاج الأسلوب التصالحي، في التعاطي مع وجهات النظر لتكريس الاستيعاب، بدلا من لغة التصادم القائمة على الاقصاء الفكري وأحيانا الجسدي.

كاتب صحفي