آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

تذكرة رحلة قطار مدتها 75 يوما

المهندس أمير الصالح *

اقدمت شركة نقل قطارات عالمية على بيع تذاكر ممغنطة تتيح للركاب الحاملين لها ان يقضون تقريبا 75 يوما للتنقل داخل شبكة محطاتها المتناثرة في مدن عالمية مع عدة خيارات وتسهيلات. في برنامج الترويج لبيع التذاكر، عند الشراء للتذكرة يقوم الراكب بالتعامل مع جهاز آلي مشابه لماكينة السحب النقدي لـ البنوك. وعلى الراكب اثناء شراء التذكرة تحديد نوع العربة التي يود ان يستغلها من نقطة الانطلاق حتى نقطة الوصول، ونوع الغذاء الفكري الذي يود ان يُغذي نفسه وروحه بهما من خلال انتقاء نوع الركاب «ذكور، اناث، مختلط، غير معلوم الجنس، غير محدد الميول، محدد الميول، المستوى العلمي، الانتماء الوظيفي او العرقي» والفئة العمرية التي يود مصاحبتهم في رحلته «40 عاما فما فوق، 30 عاما فما فوق، عشرون عاما فما فوق... الخ، غير محدد فئة العمر».

في المُجمل، لدى البعض من الركاب افتراضات عامة كان يفترض عند ركوبه من المحطة «فرصا اسمها الف» بان جميع الركاب هم من عرق او قومية او انتماء معين ك مسلمين عرب وان انطلق من المحطة «باء» فانه سيفترض بان معظم الركاب ينتمون لـ فئة اللا دينيين وعلى ضوء ذلك يوائم الراكب خياراته ونوع اندماجة ويستقرأ غذاءه الفكري المتاح مع محيطة اثناء الرحلة من نقطة لنقطة اخرى، بناء على خيار القاطرة والمحطة المنطلق منها. في احد نقاط رحلاتي الزمكانية، وظفت كامل معلوماتي الجيوغرافية والجيوبوليتك والاجتماعية والفراسة لاختيار افضل قاطرة ومحطة انطلاق للركوب في رحلة تمتد تقريبا عشرون يوم مت مدينة كبرى الى مدينة كبرى اخرى. واخترت من قائمة ماكينة بيع التذاكر، اخترت قاطرة يكون ركابها مستواهم العلمي مرتفع ومن بيئة جغرافية معروفة بالالتزام العقلي المنصف والفئة العمرية فوق الاربعين عاما. عند ركوبي بالقطار كان الشعور الاول ان الاغلب من الركاب يحمل نفس الافتراضات التي افترضتها، وكنت اعتقد انهم يحملون قناعات تكون ارض مشتركة معهم وعليه اطلقت حسن الظن بالاخرين وسعدت مبدئيا لاني ساستمتع بكامل وقت الرحلة وساتزود بزاد وغذاء فكري رصين وهادف وبناء. وبعد صعودي الى المركبة سلمت على الجميع وكنت من اوائل من ركب، واعلن احدهم عن نيته بجعل الرحلة اكثر امتاعا للجميع من خلال المثاقفة العامة وعلى ذلك تم الاتفاق بين الجميع في الدفعة الاولى ممن صعد القاطرة. فور انطلاق القطار، بدأت المسألة بمشاركة البعض للبعض الاخر من الركاب بالمطالعة والتلخيص والتوصية لاحسن ما قرأه كل شخص؛ وكانت الايام الاولى للرحلة فيها انتاج معرفي وفير ويانع ومفيد للجميع وكان مستوى التفاعل متصاعد وتراكمي. حتى ان رواد المركبات الاخرى اضحوا يغبطوننا حينذاك لجميل ما ينقدح من مدارسة ومعلومات وكتابات وقراءات ونقل تجارب وتدفق معلومات.

فوجئنا ذات ليلة بتوقف القطار في محطة صغيرة ومظلمة بعد فترة وجيزة من انطلاقه وتم ولوج راكب جديد للعربة؛ وتم تقديم الراكب للجميع على انه قارئ نهم. ومع استئناف القطار رحلته من جديد، استئنف التدارس في الكتب والمعارف والمثاقفات النابظة بالحياة، الا ان ان الراكب الجديد قفز لبعض المناقشات الجانبية بعنوان كسر الجمود وعضد له بعض الركاب من كبار السن الذين يحضون بتقدير الجميع وبحسن نية منهم. ولاحقا انزلق البعض من الركاب القدماء واسرفوا في المفاكهة باسم خلق الطرفة حتى اضحى بعضهم اشبه بمهرج وانحسرت المثاقفة الجادة الا في نظام تحاور الشلل الذي لتوه حينذاك بذرة واهمال من هم خارج الشلة. ومع تزايد عدد محطات الوقوف للقطار في محطات فرعية كثيرة ومتلاحقة، ازاد استجلاب وتمرير اعضاء فريق مُعضد للراكب الجديد الذي التحق بنا في المحطة السابقة واصبحت المثاقفات شبه مسيطر عليها من قبل الركاب الجدد وهم اشبه بحزب، وانكفئ معظم الركاب المحسنين الظن والباحثون عن الامور الجادة في المثاقفة مع الحفاظ على كامل الاحترام والكرامة الاخرين. لاحظ البعض ان المركبة، تعددت الاستقطابات بها وتزايدت الشللية بشكل فاضح وانتقاءات في التفاعل والمواضيع وتكررت فيها حملات التسقيط والعزل والسخرية والتهكم واهدار الوقت في ترهات والاقصاء بشراسة ضد مجموعة محددة اللون الفكري من الركاب وهي فئة ملتزمة بقناعات دينية؛ بلغت روح التطاول تحت عناوين مختلفة حد مساواة اخس مواضع من اطراف الانسان باسمى قيمه فيه وتمريره بمغلف حيلة القصة المتخيلة؛ وكانت الحملات الشرسة في التشنج واثارة الكراهية تنطلق تحت اقنعة مختلفة فتارة باسم الحرية في التعبير وتارة باسم الحداثة في الطرح وتارة باسم التنوير في المناقشة وتارة باسم النقد وتارة باسم الجلد الذاتي وتارة باسم التنفيس النفسي وتارة باسم اضغاث احلام تراود القائل و... وتارة.... الخ. الا ان الواقع كان الحديث في مجمله تم اطلاقه في عدة مناقشات خدمة في تاكييد ضرورة اسقاط وجهات نظر اطراف معينة وتسييد طرف محدد في كامل الحوار. وامتدت المساجلات بين بعض الركاب حتى اضحى الجو مكهرب ومثير للاستفزاز والرحلة المعرفية والمثاقفة السابقة افسدتها تلكم الشلة الملتحقة بالمركبة؛ وانا ارى واسمع واجد ان الحوار امتد لما يزيد عن 58 يوما من وقت الرحلة والبعض يصر على نقاش نفس المحاور تقريبا على مدار 24 ساعة / 7 ايام في الاسبوع، وان اختلفت طرق التعبير عنها.

عند اليوم رقم 59، عُرضت لاول مرة مسألة صادمة في حق اخلاقيات بعض التوجهات الليبرالية والعلمانية. هنا لاحظت ان الدنيا قامت طلوع ونزول من قبل بعض الركاب المؤدلجين والمتأزمين. فانطلق الطعن في المسألة المعروضة تارة وبالتشكيك في الموضوع من اصله تارة وتاره بالتسفيه وتارة بالاستخفاف وتارة بالغمز في الغير لتمييع القضية وتارة بخلط الاوراق ومحاولة جادة لجعلها طي النسيان او القفز دون استخلاص نتائج موضوعية والتشويش على التدارس وتغيير الموضوع لما احدثه الطرح من نقاشات وتساءلات عميقة في اهلية واخلاقية ونتائج بعض الفكر الليبرالي المنفلت او المتفلت.

وفي اليوم الثلاث والستين من الرحلة، وبقدرة قادر انقلب الموضوع الى موضوع يتسأل فيه البعض عن حقيقة وجود الله واصل الدين وحقيقة الرسالات السماوية وآليات ذات علاقة. نظرت نحو تذكرتي الممغنطة والورقة المرفقة بها واتذكر اني اخترت عربة يكون الغذاء الفكري فيها هو غذاء حلال ومتزن وناضج، ولم يخطر في بالي ان ينتهي بي الجلوس في مركبة تتكشف، يوما بعد يوم، بها الايدلوجيات المتضاربة بشكل مزعج وصادم ومستفز.

المبكي المضحك هو ان البعض انغمس في حوار نقاش عقيم وهو في ارذل العمر وقد يتساءل المتابع حينئذ على كم حرف كان ذاك المتفاعل مؤمن بقناعاته طوال تلكم السنون السابقة وهل قراءاته للصحف الصفراء البائسة حجب عنه ابجديات الحقائق. والبعض تم اختراقه واقناعه ان مفهوم الحرية هو بكج كامل لا يمكن قبول بعضه واسقاط البعض الاخر حتى لو تعارض ذلك مع الفطرة والعقل السليم!.

تحدثت مع قائد القطار وسألته عن المحطات التي تلي المحطة الرئيسية الاولى من الانطلاق هل تحتوي على ماكينة تفاعلية لاختيار القاطرة الانسب للراكب من تلكم المحطات كما هو موجود في المحطة الاولى، فاجابني بالقول: المحطات اللاحقة مبدأها اركاب الركاب لزيادة عدد الركاب وليس الجودة في النوعية.

هنا ادركت ان جزء من اسباب تلاش او انقراض او تفتت معظم اهداف المؤسسات النبيلة من بعد زخم انطلاقها الاول هو عدم المحافظة على جودة المستوى طوال رحلة العمل وزيادة منسوب المجاملات والمحاباة. تخيل حجم الفخ الذي سقط فيه البعض او قد تسقط انت فيه، بغض النظر عن الشهادات الاكاديمية او الالقاب التي قد تحيط بك في اي محفل او تجمع صناعي او ثقافي او علمي او ادبي او رياضي او اقتصادي؛ فالوقوع في فخ الالتزام بمجموعة معينة قد يسوغ للبعض الاستمرار في اكل العلقم مع محاولات بائسة منه لـ التبرير للنفس باستمراريته وانجراره معهم في هذا الموضوع / التجمع او ذاك من المواضيع وتقزيم اولويات حياتية ومستقبلية لديه. استغرب من عدم وصول البعض الى قناعات اساسية في حياتهم ولا يسعون الى البحث الجاد لسد هكذا ثغرات بدل الجدال لاناس قاربوا ملامسة وقت الرحيل من الدنيا فضلا عن رحلة القطار.

كنت اتدارس مع نفسي المشهد وفلتان الامور لا سيما بعد سماع احدهم يقول ”انا اغشر واستطيع ان افعل وافعل وافعل... الخ“، فكرت ب تغيير العربة والاستمتاع بباقي وقت الرحلة والاستفادة من كل دقيقة فيها. بينما كنت أتامل، انطلق من مكبر الصوت نداءا بان حملة ركاب التذاكر الممغنطة دفعة رقم 1 بقي من الوقت لديهم عشر ايام وعليهم النزول في احد المحطات القادمة قبل نفاذ رصيد الايام لديهم. لقد عاش الرعيل الاول من الركاب كامل التجربة من النجاح في المثاقفة والاحترام المتبادل والشعور بالانتماء لصاف معين الى مرحلة الاضطرابات والنزاعات والاستقطابات وتقاذف لغة التوحش؛ حتى ان البعض نزل اضطرارا من القاطرة لفساد جو المناقشة قبل نفاذ رصيد تذكرته. تساءلت في قلق والايام تستنفذ من رصيد تذكرتي: ماهو مصير الاجواء في العربة بعد نزول دفعة الرعيل الاولى للركاب واين الحكمة من طرح مواضيع ابجديه لزمرة ركاب في الاصل صرح كلا منهم انه ينتمي لنفس المدرسة الفكرية والعقدية؛ في ذات الوقت يدعي البعض وهما الجرأة والشجاعة في الطرح وفي ذات الوقت يرى حقوقه الاساسية مغيبة او منتهكة او مسلوبة وليس لديه الجرأة حتى ان يقول لمن ظلمه انك ظالم او لمن شتمه انك معتد ولو همسا.

المقاربة:

- رحلة القطار هي رحلة العمر

- الايام 75 هي العمر الافتراضي للعمر

- المحطات هي مراحل عمرية او احداث زمانية مختلفة

- النخب الاجتماعية ليس بالالقاب ولكن بالنتائج والتوظيف الحسن لطاقات الفكرية والمادية والعلمية والادارية

- التوائم الفكري لا يتم الا بتسطير تفاهمات على الخطوط العريضة مقدما قبل الولوج في رحلة طويلة مع الاخرين وانكشاف حقائق الوجوه وسقوط الأقنعة بعد مضي اكثر من منتصف زمن الرحلة الاصلي

- لا تجعل نفسك اضحوكة بيد الاخرين وتميل كما يميلون لمجرد انك في معيتهم

لعل من الجميل ان يستنطق الانسان في نفسه بين الحين والاخر الامور التالية:

1. اعرف نفسك جيدا قبل ان تحاول معرفه من هم حولك

2. لنضع اهداف لانفسنا في النمو والانتاج والنجاح

3. نفعل قياس النتائج بعد صرف الجهد؛ فلربما الافضل ان نزرع حيث نحصد

4. لنستمر في التعلم في كل شي ولكن من الحكمة ان لا ننجرف مع كل مدع

5. اخذ تغذية رجعية عن انفسنا واداءها شي جميل ”حاسبوا انفسكم قبل ان تُحاسبوا“ لتضمن لنا مكان في الدنيا وتصور عن مكان لنا في الاخرة

6. ارشاد الاخرين للاستفادة من خبراتكم وخبراتهم في الحياة

7. تحديث المعلومات الشخصية عن المحيط البشري بنا في كل سياق بما فيه السياق الجيوغرافي والجيوبوليتك والاجتماعي حتى يرتفع مستوى الفراسة المعرفية

8. لعل الانتاج والتاثير وترك بصمة اكثر صوتا من تزاحم الكلام للكلام، فلنعمل على ترك الاثر بالفعل. البعض يعتقد سذاجة بان مشاركته بنقل روابط او تسطير روايات حيث تذهب الموجه يعطيه قيمة نوعية

9. ابحث عن المدلل والمدللين في اي تجمع حقيقي او افتراضي، فان هناك من يصفق لهم بدهاء لان المدللون يُعبرون عن لسان حال المصفقون ويستخدم المصفقون المدللين ك محطة تجارب واكباش فداء.

10. وصل النقاط في العلاقات والمصالح والتوجهات لـ رسم خارطة الامور حولك فالانسان العاقل كيس فطن

11. البعض يجامل او يتميع او يتغيير في مواقفة لاسباب عدة منها قد يكون حصوله على تسهيلات او ترقب مصلحة او الخوف من شح علاقات بديلة

12. خلق علاقات اجتماعية ناضجة لتكون سندا لنوائب الدهر وعزوة في الفرح والترح وعونا على هذه الدنيا وعزوة واهل تذكير بالله واهل صدق في الحديث قبل ان يتبخر رصيدي ورصيدك من الايام ولم نستثمرها مع الصادقين

13. هناك أُناس لو نعاملهم بالمثل لخرجوا من حياتنا منذ زمن، ولكن نقطة الإختلاف هي ماتمليه علينا أخلاقنا.

14. البعض ينغمس في أهدار وقت الاخرين لتطبيبل لافكار وتنظيرات خيالية والتذاكي على ابناء مجتمعه، ولا ترى له اي وجود فعلي مؤثر في العالم الواقعي والاجتماعي لتخفيف من الالام بعض ابناء مجتمعه وزراعة آمال محبة وألفه بين مكونات