آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

عالم الاقتصاد السلوكي

محمد محفوظ *

يُعرّف الاقتصاد السلوكي على أنه العلاقة التي تجمع عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية والمالية بالنواحي النفسية، أي أنه مزيج بين الاقتصاد وعلم النفس بمنظور أوسع، ويستخدم هذا العلم بشكل ملحوظ من قبل أكبر شركات العالم مثل قوقل وآبل وفيسبوك، كما تستمد منه معظم شركات التجارة الالكترونية أفكارها من منطلق أن التركيز يجب أن يعتمد على تجربة العميل لا الأرقام التي يجلبها معه وهي الفكرة التي يتبناها عمالقة المال والأعمال بالعالم من أمثال جيف بيزوس.

فهم تجربة العميل من منظور اقتصادي ونفسي يعتبر أثمن ما يمكن التحصل عليه بعالم اليوم حيث يتيح ذلك للمؤسسات العملاقة فرصة فهم طبيعة السوق ثم التأثير على ذلك السوق بشكل مباشر بالاعتماد على تحليل وافي للطريقة التي يعمل بها العقل البشري بكل سوق على حدة، كلنا نعلم بأن اتخاذ العميل للقرارات يعتمد اعتمادًا مباشرًا على المنفعة التي سيستمدها من عملية اتخاذ ذلك القرار، ولكن يجب علينا أن نتذكر بأن رغبات العميل دائمًا ما تكون مرتبطة بقدرته المالية والتي يبني عليها بالضرورة عملية اتخاذ قراره، وحتى إن كان الشخص يتمتع بقدرة مثيرة للاعجاب على ضبط النفس فإنه بالنهاية لابد وأن يتأثر بسيل من العواطف والعوامل الخارجية الأخرى التي سترغمه على اتخاذ القرار الخاطئ الذي قد يدر أقل نسبة ممكنة من المنفعة عليه، هذه بكل بساطة هي الطريقة التي ينظر بها الاقتصاد السلوكي للعميل.

يعتمد الاقتصاد السلوكي اعتمادًا مباشرًا على عاطفة البشر وتأثرهم المتواصل بالمتغيرات من حولهم، فمثلاً تصدر شركة آبل آيفون جديد بتكلفة تصنيع عند 160 دولار، يقر القائمون على المنتج السعر عند 450 دولار، ولكن المنتج يطرح بالأسواق عند 650 دولار، ثم ينخفض هذا السعر تدريجيًا حتى يصل لحاجز ال 450 دولار وهي قيمة المنتج الحقيقية، قد يكون العميل قد إستغلى سعر المنتج عند حاجز 650 دولار ولكن بعد هبوط السعر تدريجيًا سيتغير ذلك الشعور تلقائيًا إلى أن يقتنع بأن الفرصة قد حانت وأن إتمام عملية الشراء مقابل 500 إلى 450 دولار تعتبر صفقة رابحة له ولمحفظة نقوده، ولكن بواقع الأمر لم تخفض الشركة شيئاً من قيمة الهاتف الحقيقية والتي وضعت عند حاجز ال 450 دولار، إدراك الشركات لافتقار نسبة لا بأس بها من العملاء للموضوعية والعقلانية بالشراء يشجعهم على تطبيق الاقتصاد السلوكي لرفع نسبة الأرباح والرفع من أسهم الشركة.

العاطفة جزء لا يتجزأ من دائرة اتخاذ القرار عند البشر وهو أمر يجب أن يأخذ بعين الاعتبار قبل اعتماد أي قرار اقتصادي على مستوى محلي أو حتى دولي، تأثير ذلك قد يكون مدوي على دول بحد ذاتها، آلان غريينسبان محافظ البنك المركزي الأمريكي الأسبق لعشر سنوات اعترف بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 بأن النظريات التي أُعتمد عليها بذلك الوقت لم تتمكن من التنبؤ بالأزمة لأنها بكل بساطة لم تأخذ بعين الاعتبار العامل النفسي للبشر، هذا الفشل شجع على تطوير ودراسة النظريات المختلفة إلى أن وصلنا لنظرية الاقتصاد السلوكي التي طورها ريتشارد ثيلر وحصل على إثرها على جائزة نوبل بالاقتصاد عام 2017.

هذه النظرية تفرض على المُصنع والمُسوق أن يطرح عدد من الأسئلة التي قد تساعده على قراءة طريقة تفكير عميله بطريقة أفضل، فلماذا يبدو العميل مهتمًا بهذا المنتج؟ ما هي المقومات والأسس التي ستؤدي إلى إحساس العميل بالرضى؟ ما هي الطرق التسويقية التي ستتيح لي بأن أُقنع العميل على شراء المنتج بسعر مرتفع؟ كيف يمكن أن أقنع العميل بعلامتي التجارية؟ ما هي ردة فعل العملاء على المدى القصير وكيف يمكن أن أحسن من تجربة العميل على المدى الطويل؟ والعديد من الأسئلة الأخرى التي تساعد الشركات على تحسين خدماتها وتحقيق أرباح لا بأس بها وكلها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بطريقة تفكير العميل.

بات الاقتصاد السلوكي جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية على مختلف الأصعدة، تستخدمه اليوم الحكومات والمؤسسات العملاقة وحتى الشركات متوسطة الحجم للتنافس بسوق مزدحم للغاية، الجميل بهذه النظرية أنها يمكن أن تستخدم من قبل الجميع بلا استثناء، لا يجب أن تمتلك مؤسسة بقيمة مليار دولار لتدرس وتطبق الاقتصاد السلوكي، يمكن أن تكون بائع بيتزا على ناصية الشارع أو بائع قهوة بأحد المراكز التجارية، الجميع يمكنهم استخدام هذه النظرية لتسويق منتجاتهم بالطريقة المثلى، أما بالنسبة للعميل فمع الأسف ليس هنالك طرق علمية ثابتة لتفادي الوقوع بأفخاخ العروض المبنية على أسس الاقتصاد السلوكي، ولكن ينصح دائمًا بأن يتحلى العميل بالصبر وأن يغلب التحليل المنطقي لمنفعة السلعة على عاطفته التي قد تحمله على سلك طريق على حساب آخر، كما يُنصح العميل بالبحث عن بدائل لكل منتج والمقارنة بين أسعار ونوعية المنتج قبل اتخاذ قرار حاسم بشأن عملية الشراء، فالبدائل عادة ما تكون متوفرة سواءًا محليًا أو خارجيًا، وحتى عندها قد لا يكون ذلك كافيًا للهرب من الواقع القاسي لاقتصاد اليوم.

نظرية الاقتصاد السلوكي هي أول نظرية فعلية تربط بين الاقتصاد والنواحي النفسية للإنسان وقد وجدت رواجًا فعليًا بالسنوات الثلاث الأخيرة بشتى أنحاء العالم لفعاليتها وإحداثها لفارق حتمي ومباشر على أرض الواقع، مع تطور النظم والنظريات الاقتصادية بالقرن الحادي والعشرين تبدو النظرية الأكثر رواجًا وفعالية بين أبناء جيل الألفية الذين استوعبوا الدرس بسرعة وباتوا يبحثون اليوم عن دراسة تجربة العميل بشكل مستفيض بدلاً من البحث عن ربح فوري قصير المدى قد لا يخدم المؤسسات على المدى الطويل.

للمهتمين بهذه النظرية ينصح بالاطلاع على المراجع التالية:

Predictably Irrational - The Hidden Forces That Shape Our Decisions

Misbehaving: The Making of Behavioral Economics

متخصص بالإدارة و التسويق و التجارة الإلكترونية، أرى هذا العالم بمنظور خاص قد يكون مختلف بشكل نسبي عمّن حولي، لي إهتمامات كثيرة من بينها علاقات الدول السياسية الإقتصادية، التغيرات المناخية و تأثيرها على الإقتصاد العالمي و التوعية البيئية.