آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

القصيدة الحديثة: مسار وتحولات الثقافة

محمد الحرز * صحيفة اليوم

بعد مرور أكثر من عقدين على إصدار دار الجديد في بيروت تجارب سعودية في قصيدة النثر تمثلت في أسماء: غسان الخنيزي في ديوانه «أوهام صغيرة» وأحمد الملا في ديوانه «خفيف ومائل كنسيان» وأحمد كتوعة في «كرة صوف لفت على عجل» وعلي العمري في «فأس على الرف» وإبراهيم الحسين في «خشب يتمسح بالمارة» ويوسف المحيميد في «لا بد أن أحدا حرك الكراسة».

حيث طرأت خلال هذين العقدين تحولات مست من العمق البنية الثقافية والأدبية والفكرية للمجتمع السعودي. وأكاد أجزم أن تلك التحولات من فرط أثرها البالغ على ذهنية الفرد والمجتمع معا أفضت إلى ما يمكن تسميته مجازا، فيما يخص الأدب تحديدا، «المرايا المصقولة من الغبار».

وحتى نضع هذه التجارب في سياقها التاريخي، كي نستخلص منها ما لم تقله لنا وما قالته أيضا ينبغي:

أولا: الوقوف على طبيعة التحولات والوظائف المختلفة التي تولدت عنها.

ثانيا: الكشف عن انعكاس كل ذلك على تصوراتنا الفردية والاجتماعية للأدب والثقافة والإبداع على وجه العموم.

ثم سنرى إلى أي مدى ذهبت الكتابة الشعرية في ادعائها بالحداثة؟ وعلى أي العناصر اتكأت في قولها بذلك؟

لا يمكن رصد التحولات إلا من خلال المقارنة بين مختلف الأجيال في طريقة تلقيها للأدب، والشعر على وجه الخصوص، وأثر ثقافتها وتربيتها وظرفها الاجتماعي على ذلك التلقي. وإذا جاز لنا أن نستخدم مفهوم «التجييل» كتحليل إجرائي فإننا نقول: الذين كان خيارهم الانحياز إلى الحداثة من جيل التسعينيات - وليس جميعهم - كان الشكل الشعري المتمثل ب «قصيدة النثر» هو المثال الأسطع على هذا الانحياز، باعتبار هذا المثال تقليدا ترحل من جيل الثمانينيات إلى ما بعده من جهة، وتقليدا آخر جرى ربطه بمقولات الحداثة الشعرية على مستوى الوطن العربي من جهة أخرى، رغم اختلافهما في درجة الانحياز وطبيعته.

والسؤال هنا: ما الشرط الثقافي الذي من خلاله تم استيعاب القصيدة الحديثة، ومن ثم ممارستها عند هؤلاء باعتبارها ممارسة في نظر المجالين الثقافي والاجتماعي تشير إلى عنوان كبير هو الحداثة؟.

وما نعنيه بالشرط الثقافي هو مجمل الأسباب التي تجعل هذا المبدع أو غيره ينحاز إلى هذا الشكل الشعري أو ذاك، وكما أظن أن مجمل هذه الأسباب ثقافية بالدرجة الأولى.

وعليه أزعم أن مفهوم التحرر - على سبيل المثال - الذي اكتسب أهميته من خلال ارتباطه الوثيق بالحركات التقدمية في العالم العربي، أصبح العامل الأكثر تأثيرا على فكرة التحديث السياسي والاجتماعي والثقافي في عموم الشام والعراق. لكنه حين تسلل إلى ثقافتنا المحلية، فإنه أكثر ما كان ارتباطه قد جاء على مستوى النص الأدبي تحت مسمى مفهوم الحرية الإبداعية الذاتية، وثمة بون شاسع بين مفهوم الحرية والتحرر، حيث يعكس كلاهما طبيعة البيئة الثقافية والاجتماعية لحظة تلقي المفهومين. فالحرية هنا سرد ذاتي في حدود النص، بينما التحرر هناك سرد التجربة الاجتماعية في حدود المفهوم.

لقد كان الرهان على القصيدة الحديثة والمغامرة في كتابتها يحقق شرط الحرية ويعطيها معناها العام في الوعي الشعري عند كتابها، ومما ساعد على تكريس المعنى هو خلو الكتابة من إكراهات التجنيس والسلطة والتوظيف.

الأمر الذي حصرها بالهامش مقارنة بالأشكال الأخرى من الكتابة. لذلك كانت تجاربهم بقدر ما كانت ترصد وعيهم الذاتي وإحساسهم الجمالي بما توفره لهم اللغة من إمكانات هائلة في الكتابة، بقدر ما كانوا يغذونها باللقاءات الخاصة من جانب، وبالبحث عن مرجعيات تخص عالم الكتب والمكتبات من جانب آخر، وكلا الجانبين في فترة التسعينيات من الصعوبة بمكان بحيث من أراد البحث عن سردية تفاصيل تلك الصعوبة، سيجدها في محدودية انتشار الكتاب أو التضييق عليه أو منعه، سيجدها في انعدام وسائل التواصل وانحسار العلاقات الثقافية على المستوى الأفقي التي توفرها تلك الوسائل، وهو غياب مؤثر بالتأكيد على كلا الجانبين.