آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

بين العنب والحنظل

ورد عن أمير المؤمنين : من علم أن كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما ينفعه» «تحف العقول ص 74».

الكلمة ليست مجرد تفوهات خارجة عن نطاق المحدد لشخصياتنا والتي تستدعي منا الاهتمام والانتقاء الخاص لها، بل هي عين أي تصرف نقدم عليه ويعبر عن مواقفنا المتخذة، ومن تجاهل هذه الحقيقة فسيقع في متاعب لا حصر لها، فكما أن للكلمة دورا مهما في عرض أفكارنا وعقد علاقات إيجابية مع من حولنا، فإنها قد تكون معول هدم إن خرجت بلا رقيب يلجم المضر منها وتؤدي إلى خسائر غير متوقعة.

يضعنا أمير المؤمنين على سكة التعامل الصحيح مع ما نتفوه به من كلمات، إذ من سمات الإنسان العاقل الذي يطلب النجاح والكمال أن يتحمل مسئولية كل ما يصدر منه من قول وفعل، نعم حتى الكلمة المسئولة سمة النضج الفكري والقدرة على تشخيص الدور التفاعلي المثمر المناط به، فمن جعل كلامه لعبة وتسلية يوجهه في كل مدار واتجاه بدون نظر واعتبار لنتائجه أورثه ذلك خسارة فادحة في وقته وجهده، كما أن عين الاعتبار والاحترام التي يأمل بتحصيلها من محيطه ستكون بعيدة المنال، وذلك أن من حولنا لا يمكنهم منح ثقتهم وارتياحهم لكل من هب ودب، بل يضعونها فيمن اختبروا عقله ووجدوا أنه أهل لصداقتهم ومجالستهم ويستحق التشاور والتحاور معه، وسبيلهم لاكتشاف مؤهلاته الفكرية والثقافية والاجتماعية هو منطقه وطريقة تناوله للمواضيع والأفكار المتنوعة، فضعيف العقل لا يمكنه أن يتحدث ويفتح نقاشا حول موضوع لا يعي جوانبه وحيثياته، فكلمة الإنسان هي السبيل إلى استبيان ما يمتلكه من قدرات ومهارات، ومن كان كلامه مسئولا ومختصرا نافعا ظفر بالمقبولية والمحبوبية، وأما من تناثرت كلماته في كل اتجاه فلن يكون ذلك مؤشرا إيجابيا يدفع الآخرين للتقرب منه.

ومصداقية المرء تكون على محك التطابق والاقتران بين القول والفعل، فمن كان كلامه غير مسئول ويجعل منه وسيلة للتنفيس والتسلية فقط فستراه يتحدث بما لا يفعل ويحمل الكثير من المغلوطات في تصوراته التي يتحدث بها؛ لأنه لا يزنها ولا ينظر في نتائجها وبالتالي فهي - في نظره - لا تعبر عن خطواته وتصرفاته.

ومن يحظى باحترام وثقة الآخرين هو الإنسان الواضح الذي تكون كلمته عين فعله وبالعكس، وبالنالي فإنهم يتعاملون بجدية ومهنية مع كلمته ووجهة نظره ووعده ونظراته للحاضر والمستقبل، وأما الثرثار والمخادع والجاهل وضعيف الإرادة فكلهم يجتمعون تحت مقسم وعنصر مشترك ألا وهو التباين بين كلامه وأفعاله، فيرى في كلمته ليست أكثر من مجرد استعراض يتأطر بمحيطه وأما أفعاله فهي حقيقة باطنه وما يسكن جوانح نفسه ووجدانه، ولذا فإن من حوله لن يجعلوا من كلامه إلا مجرد فقاعات هوائية تأخذ حيزا فضائيا وسرعان ما تتلاشى.

واهتمامات المرء تعبر عنها كلماته ولذا فالأجدى أن لا يطلق العنان للسانه للحديث حول كل شيء لمجرد إثبات وجود لا أكثر، بل عليه أن يحصر نفسه في إطار النتائج المثمرة والعطاء المثمر، فما أكثر المواضيع والقضايا التي يمكن أن تشغل أغلب أوقاتنا، وخصوصا في زماننا الذي شغلت فيه المقاطع المرئية والأفكار المتنوعة في وسائل التواصل الاجتماعي أحاديث الكثير من الناس ومجالسهم ونقاشاتهم، ولكن لو تساءل الواحد منهم: ما الذي سأجنيه وأتحصل عليه من ثمرة يانعة من محصل تلك الأحاديث؟

ومن جهة أخرى ما الذي سأضيعه وأفوته على نفسي من معارف ونتائج نحن بأمس الحاجة إليها، ولكننا بانشغالنا بالافكار البسيطة وغير النافعة ضيعنا أوقاتنا؟

الخطة العامة لمسيرنا نحو تحقيق الأهداف المطلوبة لتسليح أنفسنا بالمهارات والمعارف المطلوبة هو الدور الوظيفي لوجود الإنسان المتكامل، واللسان وسيلة إيجابية لإنضاج العقل وتوعيته وينبغي أن يكون محيط حديثنا في هذا الإطار، فلا نشط به نحو الخسران وموارد المنادم، فكم من كلمة غير مسئولة انطلقت كسهم مسموم أصاب كبد العلاقات الأسرية والاجتماعية فكانت حصيلتها الخلافات والمشاحنات.

كم من متحدث فيما لا يعرفه ويفقهه وإنما اتخذ الكلمة طريقا لتحقيق انتصارات موهومة لا وجود لها إلا في ذهنه، فيخوض في كل سجال وجدال عقيم دون إدراك لعواقب ذلك، فالكلمة مظهر لجوهر الإنسان وما يستبطنه من تصورات ومشاعر، وبكلمته يعرض نفسه لعقول الآخرين فيحكمون على شخصيته من خلالها، أو ليست محاسبة النفس على كل كلمة نتفوه بها ومعرفة النتائج المترتبة عليها هو ما يجنبنا الكثير من المتاعب والمشاكل الناجمة من خلافات نحن في غنى عنها؟!

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
صاحب الحال
[ القطيف ]: 13 / 10 / 2019م - 6:09 م
أحسنت شيخنا كلام في الصميم