آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

هيروهيتو أم عصا موسى؟

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

المقال الأسبوعي للصديق محمد المحمود «العنف في الثقافة العربية» أثار - كالعادة - جدلاً حاداً، بعضه متصل بالموضوع، ومعظمه إنكار على الكاتب دون مناقشة للفكرة. وخلاصة رأي المحمود أن العنف جزء من تكوين الثقافة العربية. وهو يرى هذا ظاهراً في التعامل اليومي بين الناس، وفي تعبيراتهم المنظمة عن قضاياهم ودواخل أنفسهم، كما في الشعر والأمثال السائرة. لكن أبرز أمثلته تتجسد في الحقل السياسي.

بعض الناس سيوافق بالتأكيد على رأي المحمود، وبعضهم سيرفضه. وهذا من طبائع الأمور، وليس ضرورياً أن نجادل هذا الرأي أو ذاك. لكني أود انتهاز الفرصة، لاستكشاف واحد من إطارات النقاش في المسألة، أعني الميل للتسالم أو العنف في السلوكيات الفردية والجمعية. ويهمني التركيز على علاقات القوة، أي العلاقات التي تنشأ في ظل تباين القوى بين طرفين أو أكثر، وأبرزها - كما نعلم - علاقة الأفراد بالدولة. لكن لا ينبغي استثناء القوى الأصغر حجماً، التي تتمثل في الجماعات المنظمة أو شبه المنظمة، وحتى الشخصيات النافذة.

إطار البحث المناسب في المسألة هو «الثقافة السياسية». وهذا من الحقول العلمية الجديدة نسبياً، وغرضه وصف وتفسير المكونات الذهنية التي تؤثر في علاقات القوة. هذا البحث، كان يستهدف في بداياته، الإجابة عن سؤال: لماذا نجح التحول إلى الديمقراطية في بعض البلدان، وتعثر في بلدان أخرى. هذا السؤال هو الدافع الرئيسي لعمل الأستاذين غابرييل الموند وسيدني فيربا، اللذين قاما بدراسات ميدانية، نشرت مستخلصاتها في كتاب «الثقافة المدينية»، وهو في رأيي أبرز المراجع في هذا الحقل. لكن باحثين آخرين مثل دانييل ليرنر، أخذوا البحث إلى بعد آخر، فركزوا على سؤال: ما العوامل التي تجعل مجتمعاً ما أكثر استعداداً، أو أقل استعداداً للتحول الديمقراطي. ومن هذه النقطة انطلق بحث جديد حول الفوارق الكبرى «في الذهنية الفردية والجمعية» بين الظرف الديمقراطي وغيره. وقد توصلت خلال أبحاث سابقة إلى أن الفارق الرئيسي هو القيمة النسبية، التي تمنحها الثقافة الاجتماعية للمداهنة والتفاوض، مقابل التشدد والحسم.

بعبارة أخرى، فإننا بصدد نوعين من الثقافات: ثقافة تمجد الحلول الحاسمة والسريعة. وفي المقابل ثقافة تحتفي بالمفاوضات والنقاشات المطولة وتكرار البحث، وتشجب استعمال القوة في حل المشكلات. المجتمعات التي يسودها النوع الأول تتطلع إلى زعيم قوي يقدم حلولاً حاسمة، نظير عصا موسى وسيف الإسكندر. أما المجتمعات التي يسودها النوع الثاني فهي أكثر احتمالاً لزعيم يجيد التفاوض ولعق الجراح، وربما التضحية بالكرامة الشخصية حتى يتوصل إلى حل.

ويرد إلى ذهني في هذه اللحظة أشخاص مثل هيروهيتو إمبراطور اليابان الأسبق، ونيلسون مانديلا زعيم أفريقيا الجنوبية، وكلا الرجلين قاد تحولاً عظيماً من ظرف الصراع العنيف إلى ظرف السلام والتقدم. إن نجاح الزعيمين يرجع بدرجة كبيرة، إلى قدرتهما على إقناع المجتمع بأن طريق النجاة ليست مواصلة الصراع العنيف ولا رد العدوان بمثله؛ بل التفاوض مع العدو حتى بلوغ الهدف، ولو متأخراً.

أما وقد وصلنا إلى نهاية المقال، فإني أود دعوة القارئ الكريم لمساءلة نفسه: أي نوع من السياسات «والسياسيين» يود أن يرى في بلده: الزعيم السريع الحركة الحاسم، أم الزعيم المفاوض البطيء؟ إن ميل المجتمعات للعلاقات العنيفة أو اللينة، وقابليتها للتحول الديمقراطي أو العكس، رهن بميل غالبية أهلها لهذا النوع أو ذاك من السياسات ورجالها.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
حسن عيد السيهاتي
[ سيهات ]: 24 / 10 / 2019م - 8:10 ص
مقال جميل
باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.