آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 4:47 م

مقاربات حول الحركات الاحتجاجية العربية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

في المقال السابق، الذي حمل عنوان: «في الهوية والنهضة»، تحدثنا عن تأثير وتأثر، ما يجرى من حركات احتجاجية، بالوطن العربي، في السودان والجزائر ولبنان والعراق، على الهوية العربية، بالسلب والإيجاب. أشرنا إلى تماثل بنية النظامين السياسيين في لبنان والعراق، من حيث هويتهما الطائفية، التي هي في الأصل، صناعة الاحتلال الأجنبي. وأيضاً تناولنا التماثل بين النظامين السياسيين في الجزائر والسودان، من حيث هيمنة المؤسسة العسكرية على السلطة فيهما.

المقاربة بين الحركات الاحتجاجية التي تداعت عام 2011، في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، وبين ما يجرى الآن في الأقطار التي أشرنا إليها في صدر هذا الحديث، تبين مجموعة من التمايزات.

لعل أول هذه التمايزات، هو أن أحداث عام 2011م، أخذت شكلاً درامياً، لم يكن متوقعاً حدوثه، في تلك اللحظة، على الرغم من الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتردية، وعلى الرغم من حالة الإحباط والاحتقان والغضب. فكان أول ملمح لها، محدودية أهدافها في إزاحة رأس هرم السلطة، والبقاء على أجهزة الدولة كما كانت عليه، قبل التغيير.

فض المتظاهرون في تونس، حركتهم الاحتجاجية، إثر مغادرة الرئيس التونسي بن علي للبلاد، كما فض المصريون تظاهراتهم، إثر تنحي الرئيس مبارك عن الحكم. وفي كلا البلدين لعبت الدولة العميقة، دوراً رئيسياً في ضبط الأمن، وتسيير دفة الحكم.

حسم جهاز الأمن التونسي، الأمر، وأسهم في ترحيل الرئيس لخارج البلاد، وفي مصر، تولى الجيش قيادة المرحلة الانتقالية. وفي كلتا الحالتين، لم تستمر التظاهرات طويلاً، وحسم الأمر سريعاً، وبقيت الدولة العميقة، تواصل مسؤولياتها.

في سوريا واليمن وليبيا، اتخذت الأحداث طابعاً عنفياً. وتدخل الناتو عسكرياً في ليبيا، وحسم الأمر بمصرع الرئيس القذافي، وتولى التيار «الإخواني» مع بعض قوى التطرف الإسلامي، السلطة، ومن ثم حدث اختلال أمني كبير بالبلاد، أدى إلى تمزقها وتقاسم الميليشيات المسلحة الهيمنة عليها.

وفي اليمن، لم يكن بالمقدور حسم الموقف سريعاً، نتيجة قوة الرئيس صالح، بالمؤسسة العسكرية، ووجود تكتلات قبلية وسياسية وحزبية داعمة له. فكان أن تمت المعالجة سياسياً، بمبادرة خليجية انتهت بوثيقة سياسية جمعت بين مختلف الأطراف، جرى توقيعها في مدينة الرياض.

في سوريا، تحول الحراك السلمي بشكل سريع، إلى مواجهة مسلحة، تدخلت فيها قوى إقليمية ودولية، واستمرت حالة الصراع، بين الدولة ومختلف الفرقاء، بين كر وفر، لسنوات عدة حتى حسم التدخل العسكري، الروسي، الأمر تحت غاية معلنة هي القضاء على الإرهاب.

في الحراك الحالي، غاب إلى حد ما شكل المفاجأة، فنظام البشير في السودان، على الرغم من سطوته واستبداده، لم يتمكن من تجريف الحركة السياسية في البلاد، وقد بلغ عجزه وفشل سياساته الاقتصادية وقدرته على الدفاع عن سيادة البلاد، حداً غير مسبوق، بما جعل الانتفاضة بحقه، في بلد شهد في تاريخه المعاصر انتفاضات عدة، أمراً متوقعاً.

ما يميز الحراك الحالي في السودان هو النفس الطويل، واستمرار الانتفاضة قرابة أحد عشر شهراً، وأيضاً قدرتها على الصمود، أمام عنف السلطة؛ حيث قتل في المواجهات بين المحتجين وقوات الأمن، أكثر من 250 شخصاً، وجرح الآلاف من المحتجين، ومع ذلك لم يتراجع السودانيون عن الكفاح من أجل تحقيق أهدافهم. ولا تزال هناك خشية كبيرة من انتكاسة الأوضاع في هذا البلد، بسبب قوة سيطرة الدولة العميقة.

الأحداث في الجزائر، تتماثل إلى حد كبير، مع أحداث السودان، من حيث النفس الطويل للحركة الاحتجاجية. ولا يوجد ما يشير إلى قرب توصل إلى حل بين قيادة الجيش التي تتمسك بإجراء انتخابات رئاسية سريعة، وبين المحتجين، الذين يرون أن الانتخابات الرئاسية ينبغي أن تجري بعد تحقيق الانتقال السياسي، وليس قبله.

في العراق ولبنان، لا تزال الأمور في بداياتها، لكنها تبدو أكثر تعقيداً، مما هي عليه في السودان والجزائر. ففي لبنان، تشكل قوة رسوخ البنى الطائفية، ووجود حراس أقوياء لها، بين الأحزاب السياسية، إعاقة رئيسية لأي تحول سياسي جذري، نحو إلغاء النظام الطائفي، أو باتجاه محاسبة الفاسدين. والأمر الأنكى، هو أن النظام الطائفي الذي يتظاهر اللبنانيون ضده، محمي برعاية إقليمية ودولية وعربية.

في العراق، لم يكن هناك نظام سياسي ببنية طائفية، قبل الاحتلال الأمريكي له عام 2003. لكن الهندسة الأمريكية، لنظام ما بعد الاحتلال، جاءت متسقة، مع رغبات إقليمية، وأيضاً مع مكونات سياسية طائفية أخذت في التشكل منذ سبعينات القرن المنصرم، ونشطت بقوة أكبر، بعد اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.

باختصار، أمامنا مسار طويل، من الأحداث، في هذه البلدان الشقيقة. وربما نشهد في الأيام القادمة تطورات دراماتيكية، وتدخلات أجنبية مباشرة، في الأحداث الجارية، لكن التعويل كبير، على مكر التاريخ، وعلى أن حركته تسير في نهاية المطاف، نحو الالتحاق بالعصر الكوني، المتجهة بوصلته إلى الأمام.