آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:14 م

الفجرُ في مشهدين

المهندس هلال حسن الوحيد *

أنا ساكنٌ قرب البحر، وينبلج الفجرُ كلَّ يومٍ عن مشهدين بينهما بونٌ شاسع من الجمال والقبح. المشهد الجميل هو مع اعتدالِ الطقس تعج ضفتي الشاطىء بالرجالِ والنساء من كلِّ الأعمار يشدونَ الهمم، هذا يجري وتلك تمشي، كلهم في خطواتٍ حثيثة يستعدون بها ويحتفونَ باستقبالِ يومٍ سعيد، وراكبُ دراجةٍ هنا وهناك يشد عزيمته ويقوي جسده، أو حبيبين جالسين فوق العشب الأخضر ينتظرانِ سويعاتِ الليل أن تنقضي. مشهدٌ يجعلني أكاد أصرخ هكذا يجب أن تكونَ الحياة!

سوف يكتمل جمالُ اللوحة لولا أنه لا يخلو أيُّ فجرٍ من شابٍ وكهلٍ وغرباء يتخطون الإشاراتِ الحمراء بكلِّ فجاجة. ومن الأسى انضم للقائمةِ بعضُ الشاباتِ والنساء وزادوا الطِّينَ بَلَّةً! ولأن هذا المشهد هو الغلاب، لم أستطع سوى مشاركةَ غيري إياه لعلَّ منسوب الضيقِ يقل لدي، فجرى قلمي على غيرِ العادةِ فيما أكتب فيه.

يختفي المنظرُ الجميل من على ضفتي الشاطئ ويستمر توارد المشاهد الذميمة طوال اليوم، بين الفينة والأخرى، حتى يعود مشهدُ الجمال في حضورِ المشاةِ والجالسين عصراً قبيل الغروب. في هذا الوقت تزداد الطرقاتُ ازدحاماً لتعرف عند وصولك أن السببَ هو حادثٌ يتكرر تقريباً كل يومٍ مراتٍ عديدة بين مركباتٍ تسيرُ في نفس الإتجاه! لتسأل بعدها: هل قوانين الفيزياء تعمل فينا بطريقةٍ هزلية، ففي العادة تحدث الحوادثُ بين متعاكسين في الاتجاه، لا بين من يسير في ذاتِ الإتجاه؟!

منظر الإنسان، صغيراً كان أو كبيراً، رجلاً كان أو امرأة، غريباً أو مواطناً، ينتهك حقوقَ غيره الصامتين في تعريضِ حياتهم وأملاكهم واخافتهم وتشويه حضارتهم ليس مقبولاً، ويتنافى مع تقدم المجتمعات في سلوكياتها وعلومها وحبها للحياة، ولا يحتاج أي عاقل من يذكره أنه من المحتملِ أن يموتَ أو يكونَ قاتلاً في المرةِ القادمة إن تعدى اللونَ الأحمر. هذه المناظر لا نراها في بلدانٍ ومجتمعات نعتقد أنها أقل منا تاريخاً ومعرفةً واقتصاداً!

كم كنت أرغب أن أصفَ لك زرقةَ الماء على ضفتي البحر، ورقةَ النسيمِ الذي يمر من فوقه والطيور المهاجرة التي تلتمس الدفء فيه، لكن المشهد الناقص الذي لم يستطع الجيل الذي وُلدت فيه أن يحميَ من أتى من صُلبه من المشاركة فيه أملى هذا الفيض، فلا يجب على المسالم الذي يستخدم الطريق أن يسألَ نفسه: هل أعود؟ ومتى أعود؟ بل له أن يُمتع ناظريه ويفخر بأن التاريخَ والحضارة لا يعودانِ القهقرى بل يسيرانِ بخطاً ثابتة نحو المستقبل.

تكتمل حماقة المشهد حين يصح القول ”يلبس الحَلَق من ليس له أذنان“، فلا تعدم أن ترى شخصاً صغيراً أو كبيراً جميل المنظر والملبس في مركبةٍ غاليةِ الثمن يشارك بكل أريحية وتفاخر في تخطي الضوء الأحمر، فليس لنا إذاً سوى أن نرفعَ أيدينا نحو السماءِ وندعو اللهَ أن يكتملَ جمالُ المشهد ويتمثل صورةً كاملةً تعكس قدم حضارتنا ورقي مجتمعنا، فبعض المشاهدِ ليست من سماتِ مجتمعنا الراقي...

مستشار أعلى هندسة بترول