آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

لماذا تموتونَ وتقتلونَ أحلام أبنائكم؟

المهندس هلال حسن الوحيد *

يقضي كثيرٌ من مالكي السيارة أجملَ الأوقات في قيادة تلك القوة الجبارة التي يتفاعلون بها مع المحيطِ ومعطياته متى ما كانوا فيها. ولذلك اعتمد مصممو السيارات أن يجمعوا بين القوةِ والمتعة في آنٍ واحد قدر ما استطاعوا. وأنا اليوم سوف آخذك في رحلةِ القيادة حيث نحن والضغط والرعونة وربما الموت، وبين أماكنَ أخرى حيث المتعة والسلاسة. فارقٌ يحثني على السؤالِ التالي: لماذا يتسارع الناس في مجتمعاتنا نحو الموت الرخيص حتى إننا نقرأ اسماً لفردٍ عزيز يختفي كل يوم، بينما غيرنا يحب الحياةَ ويثمن عالياً هبةَ اللهِ فيها؟

اشتريت أوَّل سيارة في شهر يناير 1980م بمبلغ ألف دولار، أي حوالي ثلاثة آلاف وخمسمائة ريال آنذاك. كانت السيارة كبيرةَ الحجم وتستهلك كمياتٍ كبيرة من الوقود ولم يكن فيها غير المذياع كوسيلةٍ وحيدة للترفيه. ومع قبح مظهر السيارة وخشونتها إلا أن القيادةَ في البلد التي كنت فيها كانت من أكبر المتع!

أينما تكون ينتظم الناس في خطٍّ واحد ويقودون السيارةَ في خطوطٍ مستقيمة ومنتظمة، ونادراً ما تشاهد حادثاً في الطريق يحبسك عن الوصول إلى حيث تريد مدةً طويلة، وإن كنت محظوظاً وشاهدتَ حادثَ اصطدام فلن تحزنك مشاهد القتلى والجرحى إلا خدوش ورضات في أطراف السيارات. ومن نوادر السياقة في الخارج أن كان لي صديق وُضع اسمهُ في الصحفِ المحلية لأنه اصطدم بقطارٍ في أول حادث منذ أن أُنشئت سكة الحديد في البلدةِ الصغيرة التي كان فيها.

نحنُ الآن عندنا أجمل وأقوى السيارات الحديثة، لكن مع بالغ الأسى تحولت القيادة إلى كميةٍ من الضغطِ النفسي والجسدي سواءً كنت في رحلةٍ قصيرة أو طويلة! وتبقى المتعة في كيف تتملص من الاصطدامِ والموت وكأنك ساحر. تتجمع السيارات في الطريقِ في كومةٍ متقاربة ولا تنفك الأنوار والأبواق تطلب مني الانزياحَ من مساري وكأنني مخلوقٌ من عالمٍ آخر ليس لي أن أشارك جنسَ البشر الطريق! يقودون سياراتهم في خطوطٍ متعرجة تبعث الشك في أنَّ نظريةَ الهندسة انقلبت من ”أقصر المسافة بين نقطتين هي الخط المستقيم“ إلى ”أقصر المسافة هي أكثر الخطوطِ تعرجاً وانحناء“.

وأعجب ما في القيادة عندما تُبلل الأرضَ بضعُ قطراتٍ من المطر لا تتعدى الرذاذ، فترى الناس من كلِّ الأعمار يسرعون وكأنهم في الحشر، هاربين من المطر ولكن لا يدرون إلى أين، وتبقى عليك تبعة الابتعادِ عن مسارهم وإلا ليس لك حظٌّ من النجاة. بينما غيرنا يريحه المطرُ من العجلة ويستمتع بالقيادة على أنغامِ زخات ماء السماء ويصل بسلامٍ وراحة.

مع بالغ الأسى لو علم مهندسو السيارات أننا سوف نقود اختراعاتهم البديعة بالصورة السيئة لربما نصحونَا بركوب الحمير والبغال وترك السيارات لمن تكون له قيادة السيارة متعةً آمنة دون أن يموت فيها أو يقتل غيره أو يكون مصدر إزعاج أو أذى!

كم يحزنني حين أقرأ، أو أسمع، أعمارَ من يموتون في حوادث الطريق ويخطر في بالي كيف يبكيهم من بعدهم ولا تبقى لهم من بعدهم سوى الصور ورائحةُ الملابس والذكريات. يسأل صغيرهم: هل يعود أبي أو تعود أمي؟ أنام في حضنه ولو غفوةً واحدة ثم يموت! لكن واقع الحياة يقتضي أن من ماتَ لا يعود، وتموت معه الأحلام والآمال، فهلا اتعظنا وأعطينا فرصةً لأبنائنا حين يأتي العيد ألا تكون نجواهم: يا عيد مر وجيب أهلنا... يا عيد مر بأهل المحنة؟!

مستشار أعلى هندسة بترول