آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 2:34 ص

الأساليب اللغوية في وصية النبي (ص) لأبي ذر الغفاري - الجزء الثاني

الشيخ سمير آل ربح

تناولنا في الجزء الأول من هذه المقالة الوصايا النبوية: وصيته ﷺ لأبي ذر الغفاري مثالًا، تحدثنا فيها عن جو الوصية، وعن معنى الوصية، وعن الأساليب اللغوية التي تناولتها، وهي: النداء والأمر والنهي، وهنا تكملة لهذه الأساليب، نذكرها مع شواهدها.

رابعًا: أسلوب الشرط

ويتكون من أداة الشرط «اسمًا كانت أم حرفًا» وفعل الشرط وجوابه، فهي جملتان رُبطتا بالأداة لتصبحا جملة واحدة، ولتكون الجملة الأولى سببًا للجملة الثانية:

”مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ“ - النساء: 123.

الجملتان: ”يَعْمَلُ سُوءًا“ و”يُجْزَى بِهِ“، ربطتا بأداة الشرط ”مَن“، ودخل عليها التغير الإعرابي «الجزم»، ولتصبح الأولى سببًا للثانية؛ فالجزاء من جنس العمل.

وقد جاء أسلوب الشرط في الوصية على نحوين «باعتبار أداة الشرط الجازمة وغير الجازمة»:

أ - أدوات شرط جازمة، وهي التي تدخل على فعل الشرط وعلى جوابه، فتجزمهما «السكون، أو حذف حرف العلة، أو حذف النون»، بالإضافة إلى إفادتها معنًى خاصًّا.

ومن أدوات الشرط الجازمة ”مَنْ“، نحو قوله ﷺ: ”مَنْ رَكِبَها نَجَا وَمَن رَغِبَ عنها غَرق“. يتضح هنا سببية الركوب للنجاة: ركوب سفينة أهل البيت للنجاة في الدُّنيا والآخرة، أما من لم يركب في هذه السفينة فسيغرق، بضلاله في الدُّنيا وسوء عاقبته في الأخرى.

ومن أدوات الشرط الجازمة ”أيما“ في قوله ﷺ: ”أيما رجل تطوَّع في كلِّ يوم باثنتي عشر ركعةً سوى المكتوبة كان له حقٌّ واجبٌ بيتٌ في الجنة“، وهذا وعد نبوي عن الله سبحانه بأن من التزم بهذا العمل وجبت له الجنة.

ب - أدوات شرط غير جازمة، وهي التي تدخل على الفعل الشرط وعلى جوابه دون أن تؤثر فيهما إعرابًا، بل هي أدوات للربط بين الجملتين، مع إفادتها معنًى خاصًّا.

وجاءت في هذا السياق الأداتان التاليتان: لو، إذا:

1 - لو: حرف شرط غير جازم لا يليها - غالبًا - إلا ماضٍ معنى، وذلك نحو قولك: ”لو قامَ زيدٌ لقمت“، وفسرها سيبويه بأنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. - شرح ابن عقيل، ابن عقيل الهمداني، 1/ 385.

وجاءت ”لو“ في الوصية في شاهدين:

الشاهد الأول: ”لو أنَّ رجلًا كان له مثل عمل سبعين نبيًّا لاحتقره وخشي أن لا ينجو من شر يوم القيامة“.

وفيه حث المرء على التَّقليل من عمله مهما عَلَا في نظره؛ فإن العمل الصالح وإن كان يبدو كثيرًا بحسب الظاهر، فإنه في جنب الله تعالى قليل.. قليل، أضف إلى ذلك أن شروط القبول وعلى رأسها الإخلاص ومجانبة الرياء، هي الأساس.

والشاهد الآخر قوله ﷺ: ”لو نظرتَ إلى الأجلِ ومسيرِه، لأبغضتَ الأملَ وغرورَه“.

وفيه حث على التأمل والتفكر في الموت وتسارعه في الأنام، فهو من موجبات التعلق بالآخرة والانقطاع عن الدُّنيا بقلبه، وقد روي عن رسول الله ﷺ: ”اذكروا هَادِمَ اللذات، فقيل: وما هو يا رسول الله؟ فقال: الموت“ - بحار الأنوار، المجلسي، 6/ 133,2 - إذا، وهي اسم يعرب ظرفًا في محل نصب يدل على الزمان المستقبل، وإن جاء بعدها فعلٌ ماضٍ.

ومن شواهدها في الوصية: ”إذا أصبحتَ فلا تُحدِّث نفسَك بالمساء، وإذا أمسيتَ فلا تُحدِّث نفسَك بالصباح“، أي: ليكن الموتُ حاضرًا نصب عينيك، وهذا له أثرٌ بالغٌ في تهذيب النَّفس وتزكيتها، والإقبال على الطاعة بقلب خاشع.

وجعل الجملة الشرطية تشبيهًا لأمر غير محسوس بأمر محسوس في قوله ﷺ: ”إن اللهَ تعالى جعل قُرَّةَ عَيني في الصَّلاة، وحببَّها إليَّ كما حبَّب إلى الجائع الطعام، وإلى الظمآن الماء، وإن الجائع إذا أكل الطعام شبع، وإذا شرب روي، وأنا لا أشبع من الصَّلاة“؛ فإن الصَّلاة أمر معنوي، لا يَملُّ النَّبي منه، ولتقريب الصورة شبَّهها بأمر حسي وهو الطَّعام والشَّراب الذي يصل بالمرء إلى الشَّبع وإلى الارتواء لا محالة، بخلاف الصَّلاة، فإنها ”خَيرٌ مَوضوع، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر“، و”قُرَّةُ عَيني الصَّلاة“.

ومن شواهد ”إذا“ الشرطية أيضًا قوله ﷺ: ”إذا سُئلت عن علمٍ لا تعلمه فقل: لا أعلم، تنجُ من تبعته/ إِنَّ الله تعالى إذا أراد بعبد خيرًا جعل الذُّنوب بين عينيه ممثَّلة/ إنَّك إذا طلبت شيئًا من أمر الدُّنيا وابتغيته وعسر عليك، فإنك على حال حسنة“.

وأداة الشرط ”إذا“ هي أكثر أدوات الشرط استعمالًا في الوصية.

خامسًا: أسلوب الاستفهام

وهو جملة تتصدرها أداة استفهام حرفًا كانت أم اسمًا.

وجاء حرفا الاستفهام: هل والهمزة، أما ”هل“، فقد جاء مرة واحدة في قوله: ”هل ينتظر أحدٌ إلا غنى مطغيًّا، أوفقرًا مُنسيًّا، أو مرضًا مزمنًا، أو هرمًا مفنيًا، أو موتًا مُجهدًا، أو الدَّجَّال فإنه شرٌّ غَائب ينتظر، أو السَّاعة والسَّاعة أدهى وأمر!“. خرج الاستفهام فيه من غرضه الأساس وهو طلب الفهم، إلى غرض بلاغي، هو النفي: هل ينتظر أحد، أي: ما ينتظر أحد، ولمجيء ”إلا“، ولعدم ذكر المستثنى منه؛ أصبح هذا الأسلوب «الناقص المنفي» من أساليب القصر، فيكون المعنى المتحصل هو تقرير إثبات حقيقة الدُّنيا «على سبيل الحصر»؛ فالدُّنيا المتمثلة في الغنى الذي يخرج الإنسان عن حدوده: ”كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ «6» أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى“ - العلق: 6,7، أو الفقر المُنسي، أو المرض المتواصل، أو الهرم الذي يعقبه الفناء، أو الموت المتعب، أو مجيء الدَّجَّال في آخر الزمان، وآخرًا هو الساعة حين يقوم الناس لرب العالمين، أصبح كل ذلك يوضِّح حقيقة الدُّنيا وما هيتها.

أما حرف الاستفهام ”الهمزة“، فقد جاء في قوله: ”ألا أخبرك بأهل الجنة؟“، وقد خرج الاستفهام فيه أيضًا عن غرضه الأساس إلى غرض بلاغي آخر، وهو العرض، و”أَلَا“ هي أداة تنبيه، مركبة في الأصل من همزة الاستفهام، و”لا“ النافية، فأصبحت من كثرة الاستعمال كأنها كلمة واحدة، وهي المسمَّاة ب ”أَلَا“ الاستفتاحية.

وقد غابت أسماء الاستفهام عن الوصية، ولم أرَ استعمالًا لها.

سادسًا: الجملة المثبتة

الجملة المثبتة هي التي لم تُسبق بأداة نفي، فمعناها إيجابي، تارة تأتي فعلية فتدل على التجدد والاستمرار، وأخرى اسمية تدل على الثبوت وتقرير حقيقة.

ومن الجمل الفعلية قوله ﷺ: ”اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبلَ هرمِك، وصحتَك قبلَ سقمِك، وغناك قبلَ فقرِك، وفراغَك قبلَ شغلِك، وحياتَك قبلَ مماتِك“، أي: وليكن هذا الاغتنام متجددًا على طول الخط، وليس مرة واحدة فقط، وهذا الاغتنام مفتاح من مفاتيح السعادة في الدارين.

ومن الجملة الاسمية قوله ﷺ: ”الدُّنيا سجنُ المؤمن وجنةُ الكافر“، وفيه تقرير لهذه الحقيقة؛ وعليه ينبغي للمؤمن أن يسايرها لكي يسعد، فإذا عاكسها واعتبر الدُّنيا جنته فإنه سيشقى، ولن يستطيع مواجهة البلاء في المال والوُلد والبدن إلا بالسخط وسوء الظن بالله، والعياذ بالله.

ومنها قوله ﷺ: ”المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة“. خلافًا لمن يرى تقديم أصحاب المال والثروة لكونهم أغنياء وأثرياء، وليس لصفتي التقوى الفقاهة فيهم.

وتأتي في هذا السياق ”كم“ الخبرية، وهي الدالة على الكثرة، نحو: ”كَم مِن مستقبل يومًا لا يستكمله، ومنتظر غدًا لا يبلغه“، وهي حقيقة خارجية؛ فإن مباغتة الأجل تقطع الآمال!

وتُؤكَّد الجملة المثبتة ببعض أدوات التوكيد مثل ”إنَّ“، نحو قوله ﷺ: ”إِنَّ حقوقَ الله جَلَّ ثناؤُه أعظمُ مِن أَنْ يَقوم بها العباد. وإِنَّ نِعَمَ اللهِ أكثرُ مِن أن يحصيها العباد، ولكن أمسوا وأصبحوا تائبين“.

وكذلك تؤكد ب ”قد“ إذا دخلت على الفعل الماضي، نحو قوله ﷺ: ”إني قد دعوتُ اللهَ جَلَّ ثناؤُه أن يجعلَ رِزقَ مَن يحبني كفافًا“.

ومن أساليب الجملة المثبتة استعمال ”طُوبى“، وجاء هذا الأسلوب مكررًا في النصوص الشرعية، ومنها هذا النص الذي بين أيدينا. قال ﷺ: ”طُوبى لأصحاب الألوية يوم القيامة يحملونها فيسبقون إلى الجنَّة، أَلَا وهم السابقون إلى المساجد بالأسحار وغيرها“.

في تاج العروس: ”الطُّوبى بالضم: الطِّيب، عن السِّيرافي، وعن ابن سيده تأنيث الأطيب“ - تاج العروس، الزبيدي، ط ي ب.

وعن أبي بصير قال: قال الصَّادق : ”طُوبى لمن تمسَّك بأمرنا في غيبة قائمنا، فلم يزغ قلبه بعد الهداية“.

فقلت له: جعلت فداك وما طُوبى؟ قال: شجرة في الجنة أصلها في دار علي بن أبي طالب وليس مؤمن إلا وفي داره غصن من أغصانها، وذلك قول الله عز وجل: ”طُوبَى لهم وحُسْنُ مَآب“ - معاني الأخبار، الصدوق، ص 112.

وبالرجوع إلى نَصِّ الوصية، نفهم أن فيه حثًّا على الإسراع إلى المساجد لنيل الثواب ”بالأسحار وغيرها“، أي: وغير الأسحار، من باب ذكر العام بعد الخاص، وإنما خص الأسحار لأهمية هذا الوقت، فهو وقت نوم؛ فلا يَعتني به إلا القلة من المؤمنين. قال تعالى: ”وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ“ - آل عمران: 17.

وفي الوصية أيضًا قوله ﷺ: ”طوبى للزاهدين في الدُّنيا الراغبين في الآخرة“.

والمحصَّل أن ”طُوبَى“ هو ثواب جزيل من عند الله سبحانه.

سابعًا: أسلوب النفي

للنفي في اللغة أدوات منها: لم، لا، ما، وهي حروف: الأول جازم للفعل المضارع والآخران لا يعملان، يفيدان النفي فقط، يدخلان على الفعل والاسم. تقول: ”شربت الدواء، وما تناولت الغذاء“، و”قابلتُ خالدًا لا عليًّا“.

وجاءت الأداتان ”ما، لم“ في قوله ﷺ: ”يا أباذر ما من شيء أبغض الى الله من الدُّنيا؛ خَلَقَها ثم أعرض عنها فلم ينظر إليها، ولا ينظر إليها حتى تقوم الساعة“.

ومنه ما نقله رسول الله ﷺ في الحديث القدسي عن الله «عزَّ وجلَّ»: ”يقول الله تعالى: لا أجمع على عبد خوفين ولا أجمع له أمنين، فإذا أمنني في الدُّنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدُّنيا آمنته يوم القيامة“.

وأما أداة النفي ”ليس“ فهي فعل ناسخ جامد «لا يتصرف». قال ﷺ: ”إني ألبس الغليظ، وأجلس على الأرض، وأركب الحمار بغير سرج، وأردف خلفي، فمن رغب عن سنتي فليس مني“، وما ذُكِرَ هو من مصاديق التواضع، أي أن هذه الصفة من سنته ﷺ، وعلينا اقتفاء أثره. قال تعالى: ”لَقَدْ كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا“ - الأحزاب: 21.

ثامنًا: أسلوب الاستثناء

أسلوب الاستثناء هو من أساليب الاختصار في اللغة، يجمع بين جلمتين في جملة واحدة، فإذا قلتَ:

سافرت العائلة كلها إلا محمدًا

فهي اختصار لقولك: سافرت العائلةُ كلُّها/ لم يسافر محمدٌ.

وأركان الاستثناء ثلاثة: المستثنى منه، أداة الاستثناء، والمستثنى.

ويتنوع إلى ثلاثة أنواع:

أ - الاستثناء التام المثبت، وهو الذي تتوفر فيه الأركان الثلاثة، نحو المثال المتقدم، وينصب فيه ما بعد «إلا» على الاستثناء.

ب - الاستثناء التام المنفي، وهو الذي تتوفر فيه الأركان الثلاثة ويكون منفيًا بإحدى أدوات النفي «ما، لا، ليس...»، نحو: لم تسافر العائلةُ إلا محمدًا/ محمدٌ، فيجوز في إعراب ما بعد «إلا» وجهان: النصب على الاستثناء، والبدلية من المستثنى منه، وهو هنا مرفوع.

ج - الاستثناء الناقص المنفي، ويطلق عليه المفرَّغ، وهو الذي يُحذف فيه المستثنى منه، ويكون منفيًّا، نحو لم يسافر إلا محمدٌ، فهنا حُذف المستثنى منه «العائلة»، وسبق بأداة النفي «لم»، ويعرب ما بعد إلا حسب موقعه من الجملة، وهو هنا فاعل مرفوع، وتكون أداة الاستثناء ملغاة، وهذا الأسلوب هو من أساليب القصر في اللغة، نحو: ”وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ“ - آل عمران: 144، فهو بمعنى: إنَّما مُحَمَّدٌ رَسُولٌ.

وجاء الاستثناء التام في الوصية، ومنه قوله ﷺ ”كُلٌّ جُلوسٍ في المسجد لَغْوٌ إِلَّا ثلاث: قراءة مُصلٍّ، أو ذِكر الله، أو سَائل عن عِلم“، فمجرد الذهاب للمسجد لا فضيلة فيه، ناهيك عن اتخاذه مكانه للحديث عن أمر الدُّنيا، أو الخوض في أعراض المؤمنين، فكلاهما منهي عنه شرعًا: الأول مكروه، والآخر حرام.

وأما الاستثناء الناقص المنفي «المفرَّغ» فقوله ﷺ: ”مَا مِن مؤمنٍ يَقُومُ مصليًّا إلا تَنَاثَرَ عليه البِرُّ مَا بَينه وبَينَ العَرش، وَوُكِّلَ بَه مَلَكٌ يُنادي: يَا بنَ آدم لو تَعلم مَا لَكَ في الصَّلاة وَمَنْ تُنَاجي مَا انْفَتَلْتَ“.

أفاد هذا الأسلوبُ القصرَ «الإضافي»، للتأكيد على أن كل مُصلٍّ يقومُ بين يَدي الله سبحانه، فإن البِرَّ يَتناثر عليه، وهذا الثواب الكبير إذا استوعبه المؤمن فإنه سوف يقبل على صلاته إقبالًا، فيخشع فيها ويتلذذ بمناجاة الله، هي مرتبة عالية من الإيمان.

ومنه قوله ﷺ: ”مَا زَهد عبدٌ في الدُّنيا إلا أنبتَ اللهُ الحكمةَ في قلبه، وأَنْطَقَ بها لِسَانَهُ وَبَصَّرَهُ بعيوبِ الدُّنيا ودائِها ودوائِها وأخرجه منها سالمًا إلى دار السَّلام“.

أي أن هناك علاقة شديدة بين الزهد «بمعناه الحقيقي» وبين الحكمة، فمن أرادها فليزهد في هذه الدُّنيا.

وقوله: ”لا تصاحب إلا مؤمنًا“، فالصحبة الحقيقية هي بين المؤمنين. قال تعالى: ”الأَخِلَّاءُ يَومَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ“ - الزخرف: 67.

تاسعًا: أسلوب القسم

وهو من أساليب تقرير الحقيقة، إما بسبب الشك فيها، أو لأهميتها البالغة؛ وعليه لا يكون في الحقائق البدهية والواضحة، ومن هنا ورد النهي عن القسم في كل شاردة وواردة. قال تعالى: ”وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم“ - البقرة: 224. إنما يكون في الحقائق البالغة الأهمية، كما ورد في مواضع متعددة من الوصية، ومنه قوله: ”والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ، لو أَنَّ الدُّنيا كانت تعدلُ عند الله جَناحَ بعوضةٍ أو ذباب ما سَقى الكافرَ منها شربةٍ مِن مَاء“، ففيه توضيح قيمة الدُّنيا عند الله تعالى، وهو يخالف في كثير من الأحيان نظرتنا لهذه الدُّنيا، حين عمَّرناها على حساب الآخرة، وخرجنا بذلك عن الهدف الأساس من خَلْقِنَا.

عاشرًا: الحوار

طيلة الوصية كان أبو ذر يستمع بإنصات إلى رسول الله، واختتمت في آخرها بحوار قصير، فكان الختامُ مسكًا:

"فقلت: يا رسول الله، الخائفون الخاضعون المتواضعون الذاكرون الله كثيرًا، يسبقون الناس إلى الجنة؟

فقال: لا، ولكن فقراء المؤمنين، فإنهم يأتون فيتخطون رقاب الناس، فيقول لهم خزنة الجنة: كما أنتم حتى تحاسبوا، فيقولون: بما نحاسب! فواللهِ ما ملكنا فنجور ونعدل، ولا أُفيض علينا فنقبض ونبسط، وكنا نعبد ربنا حتى أتانا اليقين".

وهي تسلية للفقراء بما ابتلاهم الله سبحانه بضيق في رزقهم وضنك في عيشهم؛ فإن عاقبتهم الجنة جزاءً بما صبروا، ونِعَم عاقبة الصابرين.