آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

السلب بعد العطية..!

الدكتور محمد المسعود

أقسى أنواع السلب ذاك السلب الذي لا تشعر بفقده، ولا تبصر غيابه، ولا تعي الحرمان منه إلا بعد تمامه عليك وإكتمال بعده عنك، من لحظة الحبس الأولى للروح في الجسد، لحظة النفخة الأولى، والظلمة الأولى، والنزول في ما تكره، وما تبغض ومالا تبتغي وما لا تريد لإنها أبصرت حين ذاك الجسد صلصال من طين لازب، عاريا ضئيلا ضعيفا سيقيد أنطلاقتها، ويسلبها رهافتها، يجردها من نور مجدها الأول، ويصيرها محدودة به، مقيدة بضعفه أسيرة لعجزه مسلوبة من ذاتها بمقدار ذاك الضعف فيه والعجز في أدواته.

وكان هذا السلب الأول، سٌلب من الروح قربها من ربها ونعيمها في جنته، ونوالها لعطاياه ورحمته المباشرة، ثم أخرجت من الجنة فكان هذا السلب للعطية الثانية.

وبعد النزول إلى حياة المقيد والمحسوس وفي غمرات الغفلة المستدامة أنقلب العبدُ على مالكه، فبات الجسد هو السيد - والروح - الذات الحقيقية الباقية، والحقيقة الوحيدة الخالدة، ونفخة الله الأبدية.. تحولت على جلالة قدرها هذا وعظمتها هذه إلى - عبد ذليل - للجسد بكل شهواته ورغباته وأنحصر عمرها الدنيوي في هذه العبودية المهينة، وبالمقدار الذي نسيت فيه حياتها التي تنتظرها، وجنتها التي خلقت لها، والقرب الذي طالما نالت من جلاله وجماله ما تستشعر فيها بقاياه متى ما طهرت وأقتربت وخلت بذاتها.

وفي لحظة المفارقة الأخيرة عن هذه الآلة الجسدية تلتفت إلى الملائكة حولها فتقول لهم «يا ليتني قدمت لحياتي» لقد سُلبت فرصتها الأخيرة في نيل حياتها الخالدة الأبدية.

هذا السبب الذي يجعل أقسى أنواع السلب هو هذا السلب الذي لا تراه، ولا تبصره، لأنك بت ترى السلب فقط في كل ما يتعلق بالجسد الذي هو غير حقيقتك.! هو «حمال» يحمل متاعك، دابة تنقلك وإن لهذا الحمال والدابة زمن ينقضي ثم تعود أنت مسلوبا من كل شيء إلا حقيقتك التي كونتها في دنياك، تعود مجردا من كل شيء كما خلقك ألله أول مرة، ومنحك من روحه ما منحك، وأعطاك من نعيمه ما أعطاك، وأحبك بصفتك أسمى ما خلق، وأعلى من أعطى، وأشرف من منح!.

لا نعرف ما الذي جرى من التبدل والتحول، لا نعرف فعل الصيرورة التي صيرتنا، لا نرى الغفلة عنه سلب، ولا الإقبال على كل شيء إلا هو سلب، ولا الإنشغال بغيره سلب، ولا قسوة القلب سلب، ولا ضعف اليقين سلب، ولا قلة الرغبة فيه سلب، ولا العجز عن اليقين بما في يده سلب، ولا جمود العين سلب! ولا قلة الوقت معه سلب.

وبتنا نرى كل شهوة لم ننتهبها سلب، وكل ملك لم يجعل لنا نصيبا منه سلب، وكل رغبة لم تتحقق سلب..! وكل حوائج دابة الروح هذه سلب..! ربما هذا الذي أخبرنا الله به - نسيان النفس - «فأنساهم أنفسهم» هل سلبت الوعي بذاتك؟ هل سلبت يقظة قلبك؟ هل سلبت حضور الله فيه؟ هل سلبت رغبتك في التقرب إليه؟ هل سلبت حبك له وخوفك منه؟.

إن هذا كله هو أعظم أنواع السلب لقلبك بعد عطية الله لك..! وما بقي بعده فتيقن أن الكريم لا يسترد عطاياه إلا بسبب منك يوجب زوال نعتمه عليك، ورفع عطيته عنك لأنك فعلت ما يجعلك غير جدير بها ولا أمينا عليها، أنظر إلى باطنك بعد كل سلب كل عطية أنعم الله بها عليك، إن الله لا يغير على عبد نعمته حتى يغير العبد ما في نفسه من خير وصلاح.