آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

بعد ثلاث سنوات - إليكَ تجربتي

هربت باكراً من ساحةِ العمل قبلَ ثلاث سنوات مبتهجاً بأنني سوف أغير كلَّ حياتي وأطلَّ عليها من جديد لكن بعقلٍ متطور وجسمٍ كبير، لا أمر بمرحلةِ الطفولة ومآسي الماضي والحاجة، ولا رعونة الشباب وتهورها. وأظن أنني بعد مضي ثلاث سنوات أستطيع أن أصفَ لك طعمَ ورائحة َهذه التجربة، وعلى الخصوص إن كنتَ متلهفاً لها ولا تكاد تنتظر!

في المقدمة عليَّ أن أعترفَ أنني في الثلاثِ سنوات الماضية منذ 1 كانون الثاني، يناير، 2017م تعرفتُ على كثيرٍ من الخضارين والبقالين وأصبح عندي وقتٌ أطول لتبادل الطرفِ والنكت معهم.   وتبدل تقريباً جلُّ محتوى خزنتي من الأصدقاءِ الذي كنت التقيهم بحكم الزمان والمكان، ولم يبقَ منهم إلا الثلة الأوفياء الذين كنت استثقل رسائلهم الصباحية كلَّ يوم على مدار السنة، وكنت أتجاهلها وامسحها، أما الآن فأقرأها كل يومٍ، وإن تقريباً! وأيضاً عاندتُ أهلي قليلاً.

بعد ثلاث سنوات أغبط نفسي على تحملِ مكابدة الانضباط فما تعلمته في أكثر من خمسينَ سنةٍ من العاداتِ السليمة لن اتركها وانضمَ للمقاهي والسهراتِ الليلية الطويلة وأقضي النهارَ في الفراشِ منتظراً لُمة الأصدقاءِ في المساء. ما تعلمته من مواعيد النوم واليقظة لم أبدله كثيراً، فلا زلت أحتفظ بما تسميه أمي ”نوم الدجاج“، بُعيد تسليمِ الشمس واستئذانها بالمغيب، ما يعني أنني أنام باكراً وأستيقظ باكراً! وبين النومِ واليقظة أملأ حوصلةَ نهاري بأشياءَ ولو صغيرة.

واقعُ الحياة يقضي أن كلَّ رحلةٍ تنتهي مهما طالت، ولعل أطولَ رحلاتنا في الحياة هي الحياة ذاتها. ولذلك تعلمت في رحلة ما بعد العمل، حال نزولي من عربة القطار، أن عليَّ ألا أتركَ النشاط في أي لحظةٍ من حياتي، لكن تغيير العمل ممكن ومستحب. مخطئ من ظنَّ أن ليس في الحديقه متسعٌ إلا لوردةٍ واحدة، ولأنني ولدتُ في جيلٍ يعتبر تغييرَ العمل خيانة لم أغير ولم أبدل!

ثلات سنوات لن أستطيعَ أن أختصرها لك في كلماتٍ قليلة، فتجارب البشر مختلفة باختلافهم، لكن علينا جميعاً ألا نقتل عقلنا وابداعنا ونعطيهمَا إجازة بعد مغادرةِ الوظيفة، بل في العقود الأخيرة من حياتنا يجب أن تتعزز قدراتنا وقناعتنا بالمشاركة في كافة مشاريع الحياة. لا أزال أتذكر كم كان معي في صفوفِ الدراسة من هم في الخمسينات من العمر، وكم من أساتذتي كانوا في السبعينات وما بعدها!

سنواتٌ أدعو الله أن يطولَ بك العمر تضيف فيها أصدقاءَ جدد، وترى أماكنَ لم ترها، وتقرأ كتباً لم تقرأها، وكلها مفيدة. ويبقى بعد ذلك متسع من الوقتِ بين الانشغال بمشاكل العالم المتحضر ألا تنسى أن تهتمَ بعقلك وجسدك فكل الأمور تنبع من قدرتك العقلية ثم الجسدية.

هي ثلاثٌ سنوات فقط علمتني أن كثيراً مما أهملته ولم أعتنِ به كان الشجرة التي أثمرت دون أن أسقيها! في ثلاثِ سنوات عرفتُ أن قليلاً مستداماً أفضل من كثيرٍ منقطع، وأن أغلى هبةٍ من الله هي الحياة كلها...

مستشار أعلى هندسة بترول