آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

«كلُّهُ مِنكَ يا عبّود».. المُختزِلون:

محمد عبد الله العيسى * صحيفة الرأي السعودي

«كُلُّه مِنكَ يا عبّود» جملة لا تزال راسخة في ذهني رغم مرور عدّة عقود منذ سمعتُها أول مرّة في مسلسلٍ أردنيٍ قديم، حيث كان أحد أبطال المسلسل يكثر من توجيهها إلى شخصٍ آخر ضعيف الشخصية اسمه عبّود، لدى كل فشل أو مصيبة تواجهه.

فكل مصائب الدنيا التي تواجه ذلك البطل وكل قصص فشله يبرّرها بإلقاء اللوم فيها على «عبّود».

هكذا هم «المُختزِلون» يحيلون جميع النتائج والآثار في قضيةٍ ما إلى علّةٍ أو سببٍ واحد، ويتجاهلون أو يُغفِلون النظرَ إلى بقية الأسباب والعلل، وهؤلاء المختزلون يحيطون بنا في كل زمانٍ ومكان وقد يتمظهرون في شكل فلاسفةٍ أو علماءٍ أو باحثين أو في أي إنسانٍ بسيطٍ آخر لا يحمل أي عنوان، وما يجمعهم جميعًا هو هَوَسُهم الشديد بذلك السبب الأوحد، وعدم قدرتهم على التخلص من التفكير فيه، أو افتقادهم للفطنة والذكاء أو التروّي للتفكير في غيره من الأسباب، أو كسلهم عن البحث العميق والجاد، تفكيرهم خطّي يميل إلى تبسيط الأشياء وتسطيح الأمور ولا يبدو أنه يستوعب تنوّع العوامل المختلفة وتداخلها وتأثير بعضها على البعض الآخر في أي قضية أو مسألة.

فلاسفة المثالية الساذجة - مثلًا - اختزلوا المعرفة في أفكار وصورٍ ذهنية محضة وأنكروا ضرورة وجود واقعٍ خارجيٍ حقيقي يطابق تلك المعارف والأشياء.

وعلى النقيض منهم فقد همّش فلاسفة الواقعية الساذجة دورَ العقل في تكوين المعارف وزعموا أن الأشياء والمعرفة هي فقط ما يوجد في الواقع، وربما كان استخدامُ الساذجة لوصف هذه النماذج الفكرية خيرَ تعبيرٍ يصف سطحية مثل هذا التفكير الاختزالي.

ثم جاءت الفلسفة الواقعية النقدية لتنقد هذا الاختزال، ولتقول إن المسألةُ أمرٌ بين أمرين وأنّ معارفَنا ليست هي واقعٌ محض ولا هي أفكار وصورٌ ذهنية محضة، بل إن عقولنا تتدخّل في فهمنا للواقع وتؤثر في ذلك الفهم، ولذلك فالناس تفهم الأشياء الواحدة وتراها وتفسّرها بطرقٍ مختلفة، كلٌّ بحسب عقله وإدراكه ومنظوره.

ورغم مساوئ الاختزال إلا أنه لا يخلو من فوائد وإنجازات، «فرويد» عالم النفس الذي اختزل دافعية الإنسان في غريزته الجنسية، قد أحدث ثورةً ونقلةً نوعية في علم النفس.

«داروين» الذي أرجع أصول الأنواع إلى أصلٍ واحد قد أحدث ثورةً ونقلةً علميةً في علم الأحياء، و«كارل ماركس» الذي أرجع الثقافة والفن والأدب والسياسة والأخلاق «البنى الفوقية حسب تعبيره» إلى سببٍ واحد وهو الحالة الاقتصادية «وسائل وعلاقات الإنتاج أو البنى التحتية حسب تعبيره» قد أحدث ثورةً في علم الاقتصاد السياسي.

المُختزِلون - في البداية - يستفزّون أصحاب العقول الناضجة والمُعقّدة لفرط تبسيطهم للأمور، ثم يجبرونهم بسبب هذا الاستفزاز على الإصغاء لأطروحاتهم والنظر فيها مليًّا، ثم لا يلبثون أن ينجحوا في نيل إعجاب الآخرين أو استحسانهم أو على الأقل اعترافهم بأهمية ذلك السبب الأوحد الذي اختزلوا كلّ شيءٍ فيه.

وباختصارٍ شديد، فقد ننتقد في المختزلين تبسيطهم الشديد للأمور الذي قد يبلغ حد السخف، ولكن لا يسعنا إلا أن نعترف لهم بفضل التركيز على ذلك الشيء الأوحد لحد الإبداع والإقناع.

توستماستر متميز وبطل الخطابة الفكاهية في الخليج والسعودية 5 مرات