آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 1:42 ص

الاقتصاد.. المجتمع

محمد أحمد التاروتي *

ثقافة الاقتصاد او الترشيد، تناقض الاسراف والتبذير، ولكنها ليست متسقة مع البخل والتقتير، فهناك بون شاشع بين الترشيد والتقتير، فالاول يأخذ في الاعتبار الاكتفاء بالاحتياجات الأساسية، وعدم الدخول في حرمان الذات، من الاستمتاع بملذات الدنيا، فيما الثاني يدخل صاحبه في دوامة الحرمان الشديد، من الاستمتاع بامواله خشية من الفقر، الامر الذي يدخله في صراع بين تجميع الأموال، وعدم القدرة على الاستفادة، منها بالطريقة المشروعة، ”وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ“، ”إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ“ و”لا تسرف ولو كنت على نهر جارٍ“.

إشاعة ثقافة الترشيد تهدف لتكريس مبادئ أساسية، في البيئة الاجتماعية، خصوصا وان التبذير يدخل في اطار حرمان بعض الشرائح الاجتماعية، من الحصول على ”قوت اليوم“، ”ما متع غني الا بما جاع به فقير“، وبالتالي فان محاولة خلق توازن اجتماعي يحافظ على التماسك الداخلي، امر مطلوب على الدوام، للقضاء على إحساس فئات معوزة من الشعور بالتهميش، جراء عمليات الاسراف التي تمارسها الفئات فاحشة الغنى، الامر الذي يستدعي إيجاد أرضية ثابتة، لتكريس الاقتصاد في الممارسات اليومية، لاسيما وان ”حفظ النعمة يحفظها من الزوال“.

عملية تكريس ثقافة الترشيد تتطلب إيجاد برامج اجتماعية، من اجل نشرها في الوسط الاجتماعي، والسعي لتكريسها على الاطار العملي، خصوصا وان البرامج النظرية ليست قادرة على خلق ثقافة اجتماعية، مما يستدعي التحرك الجاد باتجاه صناعة ”الترشيد“، في الوجدان الفكري، وإزالة كافة العراقيل من البيئة الاجتماعية، خصوصا وان الترشيد يتطلب قناعات شاملة، وليست مقتصرة على شريحة دون أخرى، من خلال تهيئة الأجيال على اختلافها، لحمل هذه الثقافة في التعاملات اليومية.

الترشيد ليست قاصرا على جوانب محددة، فالعملية تشمل الكثير من المجالات الحياتية، وبالتالي فان محاولة حصرها ضمن إطارات ضيقة، يفوت الفرصة على مساعي صناعة ثقافة جادة، في التعامل مع الترشيد، لاسيما وان البعض يتحرك ضمن اطار ضيق للغاية، فيما الترشيد يدخل في جميع الممارسات اليومية، بحيث يتجاوز بعض التصورات الخاصة، التي تضع الاقتصاد في خانة الاكل والشرب، فيما العملية تتجاوز الاطار الضيق، لاسيما وان توسع اهتمام البشر، واتساع دائرة المتطلبات اليومية، تفرض صناعة ثقافة تتناسب مع تلك الاحتياجات المستمرة، في جميع المجالات الحياتية.

تصنيف الترشيد والاقتصاد في خانة ”البخل“، يكشف قصورا كبيرا في وصف هذه الثقافة، فالترشيد لا يستدعي الانفاق بشكل غير مدروس، ”وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى? عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا“، وبالتالي فان الهروب من الترشيد، لا يستدعي الدخول في نفق التبذير، والاسراف، فالترشيد يقع في المنطقة الوسطى بين البخل والاسراف، وبالتالي فان المرء مطالب باختيار المنطقة الوسطى ”خير الأمور اوسطها“، بمعنى اخر، فان إشاعة الترشيد في المجتمع يساعد في الخروج من دائرة الاسراف، التي تدخل الجميع في خطر الانزلاق نحو الهاوية، خصوصا وان الاسراف بمثابة كفر بالنعمة، مما يمهد الطريق الى زوالها، والدخول في نفق الحرمان.

المجتمع الذي يمتلك القدرة على تكريس الترشيد في المفردات اليومية، بامكانه احداث تحولات جذرية، في مفاهيم الانفاق المسؤول، فالكرم ليست مدعاة للخروج من دائرة الترشيد باتجاه التبذير، ”لا افراط ولا تفريط“، وبالتالي فان ثقافة الاقتصاد تمثل طوق نجاة للهروب من ”لعنة“ التبذير، التي تدخل البيئة الاجتماعية في دائرة الخطر، وتهديد مختلف الشرائح الاجتماعية، فالتداعيات المترتبة على الاسراف لا تقتصر على شريحة معينة، وانما تشمل جميع الشرائح ”الخير يخص والشر يعم“.

بكلمة، فان الترشيد مطلب أساسي، في تأسيس اتجاه ضاغط على ثقافة ”التبذير“، التي تحاول بعض الفئات تكريسها ضمن البيئة الاجتماعية، خصوصا وان الاقتصاد يعالج العديد من الاختلالات، في بنية الطبقات الاجتماعية، بحيث يساعد في تقليص الهوة، بين الفئات على اختلافها.

كاتب صحفي