آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 2:22 م

حداثة المجتمع والديمقراطية.. ضرورة أم اختيار؟

محمد الحرز * صحيفة اليوم

هل ثمة علاقة بين حداثة المجتمع وارتباط نظامه السياسي بالديمقراطية ارتباط ضرورة لا على سبيل الاختيار أو المجاز؟

يستوقفني هذا السؤال كثيرا؛ نظرا لما له ارتباط وثيق بالحالة العربية الراهنة، ولما له أيضا امتداد في الأزمة التي تعيشها الأنظمة الديمقراطية في فضائها الغربي.

كانت المجتمعات الغربية قد عممت نموذجها الغربي للتحديث، وأصبح مطلبا عالميا لدى بقية المجتمعات في أرجاء المعمورة، وسرى الاعتقاد في الأوساط المعرفية والثقافية والاجتماعية بضرورة الأخذ بمكتسبات الحداثة التي دشنها عصر الأنوار وفلاسفته.

وجرى تعميد هذا النموذج في أغلب الدراسات والبحوث باعتباره النموذج الأوحد إذا ما أراد أي من المجتمعات الدخول إلى الحداثة.

وإذا ما تعرفنا على القيم التي تمثل جوهر الحداثة، أدركنا الارتباط الوثيق الذي يجمع بين حداثة أي مجتمع وطبيعة نظامه السياسي. فمطلب الحرية للفرد ثم للمجتمع هو الرافعة التي تأسست عليها منظومة قيم الحداثة، فلا يمكن الكلام عن العقلانية دون شرط حرية المعتقد والتفكير، ولا حديث عن الحقوق والواجبات دون شرط العدالة الاجتماعية والمساواة والكرامة الإنسانية، ولا النظر إلى الاقتصاد دون الالتفات إلى النظام الرأسمالي وتحولاته وآثاره الكبيرة، لقد أصبح التساوق بين القيم وشروط تحققها هو العنوان الكبير للحداثة الغربية.

لذلك خلصت تجارب التاريخ التي تراكمت حول تطور حداثة المجتمعات الغربية إلى أمرين اثنين: أولهما المسار الذي اتخذته تلك الحداثة بدءا من العودة إلى إحياء التراث اليوناني الفلسفي متخذة من مفهوم الكونية كتفكير ورؤية صلة وصل تربط بينها وبين هذا الإحياء، مرورا بالحكمة الرواقية التي أعلت من شأن الفرد إزاء نير العبودية وانتهاء بالتراث المسيحي الذي خلص إلى أن الخلاص الفردي هو الحل للبشرية.

أما ثاني المسارين فله علاقة بنقطة التقاء بين فلسفتين مختلفتين «نشأتا تاريخيا في ظروف متباينة ولكل منهما جوهرها الخاص بها، هاتان الفلسفتان هما الديمقراطية والليبرالية». فإذا كانت الديمقراطية في جوهرها تسعى إلى توسيع دائرة الحقوق من خلال مبدأ المشاركة وإتاحة الفرص بالتساوي للعيش الكريم، فإن الليبرالية تولدت من رحم الإصلاح الديني ثم الثورة الفرنسية ثم أعطاها الزخم الكبير اصطباغها بالطبقة البرجوازية الصاعدة، إذ شن المفكرون الليبراليون حربا ضد نظام الإقطاع الذي لا يرى في الحقوق سوى الامتيازات التي يحوزها الملاك النبلاء. لكن ما حدث لاحقا، والذي أدى إلى تعظيم الحقوق الفردية وتضخيمها إلى الحد الذي أصبحت المنفعة والتنافس هما قيمة القيم التي تحرك العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية، وهذا هو المأزق الحالي للمجتمعات الغربية جراء التقاء هاتين الفلسفتين فيما بتنا نسميها الديمقراطية الليبرالية، وما صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا والشعبوية في توجهاتها وتفكيرها سوى واحد من مظاهر متعددة نتيجة لهذا الالتقاء.

خلاصة الأمر الذي أود الإشارة إليه من خلال طرح السؤال ومن ثم الإجابة عليه عبر عرض الصورة الإجمالية للحداثة الغربية، هو الوصول إلى النتيجة الموالية:

أولا - ربط مسار الحداثة بالمسار الديمقراطي الليبرالي الذي انتهت عنده المجتمعات الغربية ليس شرطا لتحقيق حداثة المجتمعات الأخرى بدليل مسار التحديث التي اتخذته مجتمعات عريقة في التاريخ كالمجتمع الصيني أو الهندي أو شعوب شرق آسيا دون أن تتحول ديمقراطيتها إلى ليبرالية متوحشة، ولو جاءت بنسب متفاوتة.

ثانيا - لم تعرف المجتمعات العربية الحداثة إلا بوصفها ردات فعل ضد الاستعمار، ثم لاحقا أخذت مسارا بعد التحرر وبناء الدولة الوطنية يتصف بالبعد الاختزالي، فالتنمية الشاملة التي تبدأ من الإنسان وسبيل النهوض به وتنتهي عند تأسيس أنظمة وتشريعات ومؤسسات قوية لم تتحقق بالقدر انبنت مؤسسات عسكرية معزولة عن المسار الاجتماعي في علاقته بقيم الحداثة التي أصبحت مطلوبة عالميا كالحرية والحقوق والعدالة... إلخ.

لذلك تكمن المفارقة في طبيعة الثورات التي تحدث الآن في العالم العربي، فبينما شاهدنا الكثير من التجارب الديمقراطية سواء في دول شرق أوروبا أو أمريكا اللاتينية قادت نخبها السياسية والفكرية ثورة للتحول إلى الممارسة الديمقراطية، كانت الممانعة في الأغلب عند العرب في نخبها السياسية المثقفة.