آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

ساكنٌ في حجراتِ القلب!

المهندس هلال حسن الوحيد *

كانت رغبتي عندما اجتزتُ المرحلةَ الثانوية عام 1979م أن أكون طبيباً. لم تشأ الأقدار أن أكون فبقي للطبيبِ غرفةً يسكنها في قلبي مع أنني أدعو اللهَ ألا أحتاجه حتى الممات حين يضع ختمه على وثيقةِ المغادرة! هذه مساحةٌ صغيرة خصصتها اليومَ لشكرِ الأطباء في هذه الأزمة خوفاً أن تمرَّ دون أن ينالهم سوى التعب والعناء.

كشفت هذه الأزمة كم نحن محتاجونَ للطبيبِ والممرض والباحثِ والصيدلي وغيرهم، ذكراناً وإناثاً، فهل تخيلت أن لو تولد هذا الوباءُ في عصرٍ لم يكن في العالم ما يكفيه من هؤلاء؟ كم سوف يَستشري ويَستحكم الداء ويصعب الدواء؟ إذن، لكل من رتَّلَ وتلى ذاك القَسم وعملَ من أجلِ الإنسانِ أينما كان، لك كل تحايانا ودعانا كلما انتصبنا للصلاة.

في كلِّ مرة أرى طبيباً أستشعر أحترامَ ”حامل السماعة“ والكم من المخاطرِ التي يتعرض لها في عمله. أزمةُ هذه الأيام أرتني كم كنت محقاً في اعتقادي أن الطبيبَ هو شخصٌ لا يشبه البقيةَ في تفانيهِ وخدمتهِ للناس، فليس خافياً من ماتَ في زوايا العالمِ من الأطباء، ومن مرض ومن اتخذ من المشفى مقراً له منتظراً شفاءَ مرضاه بفارغِ الصبر. ولعل مهنةَ الطب هي المهنة الوحيدة التي يقسم فيها من يعمل ”قسم أبقراط“ أو ما يعدله على أن يراقبَ اللهَ في مهنتهِ ويصونَ حياةَ الإنسانِ في كافةِ أدوارها، ويحفظ للمرضى كرامتهم وأسرارهم. وأن يكونَ وسيلةً من وسائلِ اللهِ في رعايةِ ”الإنسان“.

في مجتمعنا يجل الناسُ كثيراً من أصحاب المهن الأخرى ويوسعونَ لهم المجالس، وحسناً يفعلون، لكن الطبيب والمختص قليلٌ من يدرك أنه يستحق أكثرَ من المال الذي يحصل على الكثير منه العاملون في مهنٍ أقل خطورة وأقل أهمية للمجتمع من الطبيب الذي يجب أن تفسح له صدور المجالس أيضا!

لا يصبح الطبيب طبيباً إلا بعد سنواتٍ من الدراسةِ المضنية التي تخص جسدَ الإنسانِ من الخليةِ فما فوقها، ولا يتوقف أبداً عن دراسةِ ما يستجد في الطب، كما يتوقف الكثيرون ممن درسوا الهندسةَ وغيرها من الاختصاصات العلمية بعد مغادرتهم مقاعد الدراسة. وبعد تلك السنوات والجهد لو ابتغى بعلمه الأجرَ فلن ينقص من شكره في مداواة ومراعاة المرضى وتخفيف آلامهم، بل له أجرٌ عاجل في الدنيا وأجرٌ آجل في الآخرة. جاء في كليلة ودمنة تحت باب برزويه الطبيب:

"أفضل الأطباء من واظبَ على طبِّه لا يُريد بذلك إلَّا الآخرة، فرأيتُ أن أواظبَ عليه أبتغي ذلك، ولا ألتمس له ثمنًا، ولا أكونَ كالتاجر الخاسر الذي باع ياقوتة كان مُصيبًا من ثمنها غِنَى الدهر بخرزة لا تساوي شيئًا، ووجدت في كتبهم أيضًا أنَّ الطبيب المبتغي بطبِّه أجر الآخرة لا ينقصه ذلك من حظِّه في الدنيا، فإنما مثله في ذلك مثل الحرَّاث الذي يُثير أرضه ويَعمُرها ابتغاء الزَّرع لا العشب، ثم هي لا محالة نابتٌ فيها ألوانٌ منه، فأقبلتُ على مداواة المرضى رجاء ذلك، فلم أَدَعْ مريضًا أرجو له البُرء وأطمع له في خفة الوجَع إلَّا بلغتُ في معالجته جُهدي، ومن قَدَرتُ على القيام عليه قمتُ عليه وفعلتُ به ذلك وإلَّا وصفت له، ولم أُرِدْ لشيء من ذلك جزاءً ولا مكافأةً ممن فعلته به".

مستشار أعلى هندسة بترول