آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

تعالوا ننظر في الدفاتر!

في جلسةِ البيت هذه الفترة من الزمن يدهشني ما يصلني من الذين يحصونَ أعدادَ الموتى والمرضى في زوايا العالم! طوبى لكم - أنتم على حق - لكنني أفضل انتظار المطر لعله يغسل الترابَ عن شجيراتِ حديقتى مع بداياتِ فصلِ الربيع فالمطر آتٍ آت. ماذا ينفع الناسَ أن يعدوا أمواتهم في الحربِ أو السلم أو في المرض؟ وإذا نفع فلابد أن عدَّ من يولد وينجو ويشفى أكثر نفعاً وبهجة.

يهبُ اللهُ البشرَ أحياناً فرصةً يُفرغهم فيها للجلوسِ ومراجعة خططهم وخرائطَ حياتهم، ولعلَّ هذهِ واحدة من الوقفات حين لا يستطيع من أرادَ السفر أن يسافر، ولا يستطيع العامل أن يعمل، ولا الطالب أن يدرس. ليس لهم كلهم غير ما أراد خالقهم من أن يَتفحصوا الوثائقَ والملفاتِ القديمة، يتأملوا فيها وجوهَ أمورهم وأحوالهم. كم في تلك الوثائقِ من ضغائن مستحكمة وخلافاتٍ مستجدة، وأحقادٍ دفينة؟ فها هو الله الآن يجبرنا على الجلوسِ والنظر فيها.

لو كانت الحياة ميزاناً ذا كفتين لكان لازمها وزن الحيطة والحذر والمعرفة في كفة، ووزن الحياة وبهجتها في الكفةِ الأخرى دون رجحانِ الأولى. تذكرني مقولةُ الشيخ ابن سينا «الوهم نصف الداء والاطمئنان نصف الدواء والصبر بداية الشفاء» بخوفي حين كنت صغيراً من الممرض الذي يطوف ببيوتاتِ الحي ينادي على من عنده أطفال حتى يخرجوا إليه ويعطيهم حقنةً من الطعمِ المضاد. كان يطلب مني رفع كمي وأنا أبكي خوفاً من منظرِ الإبرة وهو يضحك، وعندما يوهمني بوخزِ الإبرة قبلَ أن يدسها في عضدي تزداد نوبةُ بكائي. والواقع يحكي أنني لازلت أخاف من زيارةِ الطبيب والحقنة بعد عشرات السنين.

اصنعوا من هذه الأيام ذكريات واكتبوها مذكرات! يأتي الغد وتخبرونَ أحفادكم عما كان في شهر آذار/مارس 2020م، وهم يضحكون من الأيام التي قضيتموها في لا شيء! لا تتعجبوا إن كانت التحديات والمتاعب في زمانهم أصعب وأقسى لكنها كما مرت عليكم وبقيتم فهم سوف يبقون، فهكذا تستمر الحياة. يقولون لكم: حقاً؟ جلستم دونَ أن ترسموا أو تكتبوا أو تزرعوا أو تحلوا بعض مشاكلكم، فقط انتظرتم المطر؟! حينها قولوا لهم أنا قلت لكم:

نعم، انتظرنا المطر

عندما تسوَدّ السماءُ

وتواعدُ السُحبُ المطر

فموعدنا اخضرار الأرضِ

حتماً سوف يأتينا المطر

قولوا لهم:

عتماتُ سودِ الليل

بدد سودها ضوءُ القمر

خطب قس بن ساعدة في سوقِ عكاظ  فقال:

"أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَعُوا، مَنْ عَاشَ مَات، وَمَنْ مَاتَ فَات، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آت.. مطرٌ ونبات وأرزاق وأقوات وآباء وأمهات وأحياء وأموات جمعٌ وأشتات، لَيْلٌ دَاج، وَنَهَارٌ سَاْج، وَسَماءٌ ذَاتُ أبْرَاجٍ، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ ذات أمواج، ومهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تَمور، وبحار لا تغور، وَنُجُومٌ تَزْهَر، وَبِحَارٌ تَزْخَر.. إِنَّ فِى السَّمَاءِ لَخَبَراً، وإِنَّ فِى الأرضِ لَعِبَراً، مَا بَاْلُ النَّاسِ يَذْهبُونَ وَلاَ يَرْجِعُون؟!، أرَضُوا فَأَقَامُوا، أمْ تُرِكُوا فَنَامُوا؟، تباً لأرباب الغفلةِ من الأمم الخالية والقرون الماضية. يا معشر إياد.. يا مَعْشَرَ إيَاد: أيْنَ الآبَاءُ والأجْدَادُ؟، وأيْنَ الفَرَاعِنَةُ الشِّدَادُ؟، أَلَمْ يَكُوْنُوا أكْثَرَ مِنْكُم مَالاً وأطولَ آجالاً؟، طَحَنَهُم الدهْرُ بِكَلْكَلِهِ، ومزَّقَهم بتطاوُلِه... يقسم «قس» بالله قَسَماً لا إثم فيه إن للهِ ديناً هو أرضَى لكم وأفضل من دينكم الذى أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمرِ منكراً".

مستشار أعلى هندسة بترول