آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

يوميات العزل الصحي «9»

أثير السادة *

لا شيء في هذا الصباح سوى ظلال المواجهة المستمرة مع المرض، الشمس تطل بخجل على المدن الغافية على أطراف الماء، من خلف الضباب ترسل رسائلها الدافئة، هدوء يملأ فراغ الطرقات، ليس سوى سيارات نقل الأغذية والسلع تذكرنا بيقظة الناس في هذا المكان، ودوريات الأمن التي تتهيأ للانتشار، يهمس لك الصباح بأن الشروق جميل عند الشاطئ، فتصاب بالخيبة لأنك لا تستطيع الوصول، الحواجز الخرسانية وحدها تتنفس في منعطف الطريق إلى هناك، فالأقفال صارت تحاصر كل الأماكن التي يتجمع فيها الناس.

لا البحر بحر، ولا المدينة مدينة، هذه المرة يسرف المرض في حصاره لنا، يجول ويصول ويحث الخطى فيما نحن نحتمي منه في منازلنا، يلاحقنا ظله، وتزاحمنا أخباره، فيض من الخوف يدسه في جيوب الناس، ساعة يخرجون، أو يتبضعون، فالقرارات الكثيرة، والإجراءت الصارمة، أعادت كتابة سرديات المرض، فما بدأ كقصص يواجهها الناس بلا اكتراث، انتهى إلى مساحة من قلق لا يغادرونها حتى يعودوا إليها ثانية.

هؤلاء المتعافون من المرض هم الآن جسر الناس الذي يعبرونه إلى ضفاف الأمل، في غمرة المخاوف المتزايدة بات المتعبون قادرون على الطيران بأجنحة العافية والهرب من أسرة القلق، يقال بأن أكثر من 70 ألفاً قد تشافوا حول العالم، بعد أن كان الظن بأنهم على شفير الهاوية، تجاوزوا الحجر والعزل وأعراض المرض، ولا ندري إن كانوا قد تجاوزوا الخوف من زيارته لهم ثانية.. مؤكد بأنها لحظات مربكة، الإفلات من المرض وخشية الوقوع فيه ثانية، حتى لو اكتسب الجسم مناعة، حتى لو قال الأطباء بأن أي إصابة لاحقة ستكون بنوع آخر أقل حدة، يبقى أثر التجربة يغذي هواجس وظنون لا تستقر على حال.

الفضول يقودني للبحث عن حوارات مع أصحاب النهايات السعيدة، أفتش عنهم في زوايا النت، كمن يريد التكيف مبكراً مع مشاعر المرض، أتأمل عباراتهم، وتوصيفهم ليومياتهم في المشافي، أو في زوايا الحجر الصحي، بحثاً عن ما يبعث الثقة والطمأنينة في اجتياز امتحان لا نعرف محتواه، تقرأ لأكبر المصابين عمراً في الصين، وهو يحدثك من شرفة التسعين، بأن“المرض ليس مخيفا”، في الطرف الآخر طبيبة ستينية تتنهد وهي تتذكر معاناتها مع المرض، لكنها تستدرك بأن الجسم بدأ بتعزيز مناعته بنفسه، وأننا غالبا ما نقلل من قدرة أجسامنا على المقاومة، أقف بعدها على باب شاب يصف مراوغات المرض، حيث الأعراض التي تجتاح الجسد ثم تغيب لتعود ثانية أكثر شدة، هي أشد فولونزا مرت في حياتي، هكذا يصف، لم أشعر لحظتها بأن ثمة ما يهدد حياته، يضيف، غير أني حين واجهت صعوبة في التنفس، وبالتحديد الشعور بعدم القدرة على أخذ نفس بنحو كامل، أدركت بحاجتي حينها لزيارة المشفى.

ما بين الفحوصات الدورية لنقص الأوكسجين وارتفاع الحرارة يقضي المريض منهم على سرير المرض أيامه ولياليه، قبل أن يخرج بحقيبة من مشاعر فائضة بالامتنان للنجاة، يحاول الناجون في شهاداتهم أن يقدموا جرعة من ثقة للذين مازالوا على طريق التشافي، أو من سيلحقوا بهم في دورة المرض، يعلمون جيداً بأنه اليوم لا صوت يعلو على صوت“الكورونا”في أصقاع العالم، كما يعلمون أيضاً بأن التوتر الذي يرخي بظلاله على أرواح المرضى ومحبيهم، هو ما يجعل الوقت صعباً والتجربة ثقيلة، لذلك يلوحون لنا بأن تكيفوا مع عزلتكم، فإن وقعتهم في الفخ، فعاودوا التكيف لكن مع المرض.