آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 5:37 م

بيديه يحفر قبره

ورد عن أمير المؤمنين : ﴿تَذِلّ الأُمُورُ لِلْمَقَادِيرِ حَتَّى يَكُونُ الْحَتْفُ فِي اَلتَّدْبِير «بحار الأنوار ج 75 ص 63».

أي عقل حكيم يرشد إلى تكوينه وبلورته كمجهر يسلط على الغايات والأحداث والمفاهيم ذاك العظيم ، فيتجه المرء الرشيد بهمة عالية نحو اكتساب الفضائل ونقاط القوة في شخصيته، ويتخلى عن عوامل الهدم لفكره ووجدانه من تلك الرذائل والأوهام التي تجلب له النقص والتيه في دروب الحياة.

ومن تلك المسارات الوهمية التي لا نصيب لها من حظ الصوابية هو الجزم بأن تدبيرنا وتخطيطنا إذا كان محكما ويسير وفق المعادلات الدقيقة فإن النتيجة الحتمية له ستكون تحقيق مرادنا، ولا يعلم هذا الجاهل بالحقائق أن الخطوة التي نقدم عليها تخرج إلى الواقع وفق اتجاهات واحتمالات متعددة، فقد تتجه بوصلة الأحداث إلى نتائج مخيبة للآمال حققتها أسوأ الاحتمالات التي توقعناها، بل وقد تصل مآلات الأمور إلى نتائج عكسية لم تدر بالخلد أبدا وهذا ما أشار له أمير المؤمنين ، فكم من إنسان كانت نهايته هو من خطط لها ووضع المسامير في نعش نهايته من حيث لا يدري، وفي التاريخ من القصص الشيء الكثير الذي يطول استعراضه ولكن في ذكر بعض الأمثلة ما يثبت هذه الحقيقة.

للإنسان الحق في الاعتزاز والافتخار بما يمتلكه من قدرة فكرية منحها الباري له، يستطيع بها أن يرسم معالم حياته ومستقبله ويضع الأهداف المتوخاة لعيش رغيد وسعيد يتجنب فيه المنغصات، ويضع بعقله من الأفكار والحلول ما يجتاز به العقبات والمشاكل التي تواجهه بما يعيد له راحة البال، ولكن ليضع في حسبانه أن مجريات الأمور لا تسير وفق تخطيطه ورغباته دوما فالاحتمالات للمسار مفتوحة، وليكن واقعيا في التعاطي معها أينما اتجهت به.

وأمام هذه القدرة العجيبة للعقل البشري فيما امتاز به الإنسان من قدرة على تذليل الصعاب وبناء المنجزات المذهلة، يبقى هناك عامل مهم لا ينبغي إغفال تأثيره أن لا وهو القدرة الإلهية الحكيمة في التدبير والمشيئة، ويصعب على المرء مهما أوتي من قوة عقلية أن يفهم كل شيء من مسارات حياته أو أن يحسن توقعها بنحو الجزم أو الظن حتى، ومن المضحك أن البعض يسعى في فهم المعادلات الغيبية المستقبلية من خلال المنجمين والمتنبئين الأفاكين الذي يتخلصون بلا علم أو دراية بواقعهم فكيف بحاضر أو مستقبل غيرهم؟!

وقد يأخذ الإنسان الاغترار بملكته الفكرية فيعتز بقدرته على التدبير بما لا يدع المجال أمام التشكيك في قدرته على تحقيق آماله بلا أدنى احتمال لتخلف ظنونه، غافلا هذا المسكين عن تقلبات الزمان وصروف الأيام فيما تعطيه من دروس، لعله يفهم حقيقة مجريات الأمور بما هو فوق قدرته وتخطيطه مهما أوتي، أفلا يتصفح أوراق التاريخ البشري فينظر للأيام ما صنعت بمن اغتروا بقدراتهم فكان هلاكهم وبوار عروشهم في تدبيرهم وتخطيطهم، لقد وقعوا في حبائل مكرهم ولم يكن بشيء أمام المكر «التخطيط والتدبير» الإلهي، فلم يعلموا بأنهم لا يملكون من أمر صحتهم ورزقهم ورخائهم وأعمارهم شيئا مطلقا، فسرعان ما فاجأتهم من عواصف الأيام ما قهر إراداتهم وأرداهم كعجز نخل منقعر لا حراك له أبدا.

لقد غرهم طول الأمل ووضعوا رسما لغاياتهم وكأن الخلود والعافية رداؤهم الذي لا يخلعونه أبدا، فلم يرهفوا سمعا لما جرى لمن سبقهم من انهيار عروش آمالهم في لحظة لم تدر في خلدهم أبدا، فمتى يعي الإنسان حقيقة ضعفه وقصوره عن بلوغ أمانيه ورغباته في كل مرة بمثل ما خطط له؟!

ومن مصادقي كلمة أمير المؤمنين حول تخطيط المرء لما يرغب فتأتي النتائج بما يسوءه ويدمره، فرعون الذي خطط بمكره السيئ للقضاء على نبي الله موسى ومن معه من بني إسرائيل، فكان الغرق هلاكه وحتفه وجنوده غير المتوقع أبدا، مع ما جهزه من أسباب القوة والانتصار المؤكد في زعمه، ففي ذلك وغيره من الأحداث الملأى بها صفحات التاريخ عظة وعبرة وفهم لمن يعي حقيقة التأثير المحدود لعزائمنا وإراداتنا