آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 6:21 م

تصفية الحسابات

محمد أحمد التاروتي *

الانتقام يتخذ اشكالا معنوية واخرى مادية، تبعا لنوعية الاختلاف والظروف المكانية والزمانية، التي تحدد مسار الشكل المناسب، لتوجيه الضربة القاضية للمنافس او المشاكس، فالبعض يلجأ للتصفية الجسدية للتخلص من الخصوم، نظرا لشعوره بالخطورة الكبرى من وجود الخصوم على الساحة الاجتماعية، مما يدفعه للاقدام على إزاحة تلك الأطراف جسديا، حيث يحفل التاريخ بالشواهد الكثيرة على عمليات تصفية للخصوم، بينما يعمد البعض الاخر لانتهاج التصفية المعنوية للأطراف المنافسة، بهدف القضاء عليها بشكل نهائي، واجبارها على الانسحاب وترك الساحة، نظرا لفشل كافة المحاولات لتقريب وجهات النظر او الاستجابة للخروج من الساحة بشكل طوعي.

ثقافة التصفية على اختلافها ”المادية - المعنوية“ تكشف حالة من الضعف في مقارعة الخصوم، مما يدفع لاتخاذ قرار انهاء الأطراف الأخرى بشكل نهائي، خصوصا وان المنافسة القوية، والخوف من قدرة الخصوم على سحب البساط، عناصر أساسية في اتخاذ هكذا خطوات، وبالتالي فان السعي للاستفراد بالساحة، وانتهاج سياسة ”انا ربكم الأعلى“ و”انا ومن بعدي الطوفان“، يساعد على تكريس ثقافة التصفية في الممارسات الحياتية، نظرا لعدم القدرة على استيعاب التوجهات الأخرى، والآراء المناوئة او المعارضة، الامر الذي ينعكس على صورة سفك الدماء بشكل مستمر، وكذلك الحط من مكانة الأطراف الأخرى في البيئة الاجتماعية.

مقاومة ثقافة تصفية الحسابات في ظل انتشار ”الاستحواذ“، وتضارب المصالح الشخصية، تتطلب الكثير من الجهد والعمل، والاجتهاد في نشر ثقافة التسامح، وكذلك استيعاب الآراء الأخرى، فالاطراف التي تحاول امتلاك الساحة، وعدم السماح للأطراف الأخرى، بممارسة دورها في الانتشار، فانها تعمد لاختراع جميع الوسائل لاخراج كل صوت من البيئة الاجتماعية، بهدف القضاء على احتمالية المنافسة، وبروز اطراف قادرة، على إيصال صوتها في الساحة الاجتماعية، وبالتالي فان القدرة على ضبط العلاقات التنافسية بين الأطراف الفاعلة في المجتمع، تشكل مدخلا أساسيا في تكريس حالة التسامح في تبادل الآراء المتباينة، مما يؤسس لحالة من التوافق او الانسجام الظاهري، للحفاظ على العلاقات الاجتماعية، ونبذ ثقافة التصفية الحسابات، التي تترك اثارا سلبية على العلاقات الاجتماعية.

انتشار ثقافة التصفية يقضي على الوئام الإنساني، ويكرس العداء والأحقاد، بين الأطراف المختلفة، خصوصا وان ردات الفعل تخلق ثقافة ”عدائية“، عوضا من إرساء قواعد ”السلام“، في البيئة الاجتمعية، فهناك الكثير من الممارسات الحياتية تخلق الكثير من المشاكل على الصعيد الاجتماعي، خصوصا وان ”التصفية“ لا تقتصر تفاعلاتها على الاطار الشخصي، وانما تسهم في نشر ثقافة اجتماعية تحمل حالة من الكراهية، مما يضع الجميع في مواجهة مباشرة مع ثقافة إزاحة الأطراف، مقابل إرساء ثقافة الاحتضان، وبالتالي فان استخدام ”التصفية“ في العلاقات التنافسية القائمة بين الأطراف المختلفة، يحدث حالة من الانقسام الداخلي في البيئة الاجتماعية، نظرا لاختلاف التوجهات تجاه هذه النوعية من الثقافة الانتقامية.

الكراهية او عدم تحمل الآراء الأخرى، ليس مبررا لانتهاج التصفية ”الجسدية - المعنوية“، فهناك العديد من الوسائل القادرة على توظيف، تلك التوجهات المتباينة بطريقة أخلاقية، بما ينسجم مع التفكير العقلاني، خصوصا وان اللجوء الى التصفية يكشف حالة من القصور، في معالجة أسباب الاختلاف الفكري، مما يدفع لاتخاذ خطوات ”انتقامية“، بحيث تظهر على شكل إراقة الدماء، او الاجبار على الانسحاب من الساحة الاجتماعية.

امتلاك السلطة والشعور بالقوة، بالإضافة الى النفوذ الاجتماعي، عناصر تشجع على انتهاج التصفية الجسدية، فالاطراف التي تمتلك الأدوات للسيطرة على الساحة، تحرص على إبقاء تلك الأدوات، وعدم السماح بخروجها عن السيطرة، خصوصا وان وجود اطراف منافسة يهدد نفوذها الاجتماعي، ويسهم في فقدان بعض السيطرة على الساحة، الامر الذي يضع أصحاب السلطة على اختيار ”التصفية“، كوسيلة مثلى لاسكات كل الأصوات الأخرى، مما يسهم في ردع كل طرف يحاول الدخول في الساحة، والتعبير عن الآراء بطريقة مختلفة، عن توجهات أصحاب النفوذ والسلطة.

التصفية الجسدية ليست دليلا على القوة، بقدر ما تكشف خوفا كبيرا، فالقوي لا يخشى الآراء الأخرى المنافسة، نظرا لامتلاكه جميع الأدوات القادرة، على تكريس وجوده في الساحة، فيما الضعيف يتخوف من كل صوت يخرج، نظرا لعدم امتلاك للارضية الصلبة، القادرة على الصمود في وجه مختلف الآراء المخالفة.

كاتب صحفي