آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

لماذا استعادة الذاكرة وترميم التاريخ؟ «1»

أثير السادة *

هذا الحرص على استعادة الذاكرة، والنبش في التاريخ مرة بعد أخرى، يرى فيه البعض دعوة للعيش في متحف التاريخ، والهروب من الواقع وأسئلته، فماذا يفيد الناس إن عرفوا بأنهم كانوا يوما أرباب حضارة، أو كانوا أصحاب تجارة، وأن هذه البقعة كانت محط أنظار العالم، وأنها كانت حاضرة على خرائط الجزيرة العربية، وأن قومها موضع تقدير في مطلع الإسلام؟

أسئلة تتعلق بقيمة التاريخ، وبقدرة هذه المعطيات والكشوفات التاريخية أن تتحول إلى شيء ملموس في عمارة مبنى المكان ومعناه، وفي صياغة شكل العلاقة بين المكان والمكين، أو أن تكون عوناً في تفسير طبيعة العلاقات الاجتماعية اليوم، وطبيعة التحولات الجغرافية على امتداد الإقليم.

هناك الكثير من الكلام الإنشائي الذي يقال عادة حول ضرورة البحث في تاريخ المنطقة، والذي يدور حول تعزيز الشعور بالارتباط بهذا المكان، والتوكيد على هويته وأصالة أهله، وعلى إسهامات إنسان هذه الأرض في تشكيل تراث هذا الوطن، وقبل هذا وذاك رفع الغطاء عن هذه الذاكرة المنسية والمهملة والتي جرى تغييبها بقصد وغير قصد.

لماذا نريد أن نتذكر أصلاً؟ وما الذي نريد أن نتذكره بالضبط؟.. سؤالان بسيطان يمكن أن يلوح بهما أي قارئ عابر، وأن يضع من خلالهما كل الجهود المتكاثرة في نبش التاريخ تحت ما يشبه الأسلاك الشائكة، سؤالان هما بمثابة البوصلة لأي باحث فردا كان أو مؤسسة، لأن كل جهد هو مدفوع في كل الأحوال بنوايا وأهداف ورغبات يريد أن يترجمها عبر هذه العمارة الجديدة لنصوص التاريخ، يتحول معها التاريخ إلى بنايات شاهقة لكثرة ما تتكدس فيها النصوص والمرويات والخرائط والحكايات.

واضح أن القلق على صورة المكان هو من يحرض على المزيد من المشي في طرقات التاريخ والبحث في زواياه، هذا الانزياح الدائم من صورة لأخرى، ومن المتن إلى الهامش، يجعل من إعادة الكتابة لتاريخ المكان بمثابة رافعة تاريخية تعيد موضعته على خط الحياة، وتبعده عن دوائر النسيان.. صورة المدن والقرى التي سكنت الأشعار ومدونات الجغرافيين والمؤرخين، ثم طمرها رمل الغياب، وذهبت مع الريح، هي من يأخذ الباحثين اليوم للكتابة من جديد، حتى لا يمحو الوقت المزيد والمزيد من هذه الذاكرة.

حراس الذاكرة اليوم يمارسون تحفيز أفعال التذكر عند الناس، يعاكسون نهر الزمن الذي يجرف كل شيء في جريانه وهم يحاولون تثبيت صور الماضي في الأذهان، ومنع تجريف الذاكرة من جديد، يرفعون نصاً هنا ونصاً هناك، كمن يرفع الأنقاض عن وجه المكان، فهم يعلمون أن المكان هو القاعدة لهوية الإنسان، هو ذاكرتنا الجماعية التي تصف تجربتنا في هذه الحياة.

هذه التبدلات المستمرة في صورة المكان وبالتالي صورة الإنسان المحلي تجعل من مسألة استدعاء الماضي موضوعا دفاعيا، يدافع فيه الباحث عن ذاكرته أولا، وتصوراته للمكان ثانياً، وعواطفه التي ينتابها إحساس بالارتباك كلما احتشدت في الذهن الظنون والمخاوف بتحول المكان إلى شيء لا يطابق الذاكرة الأثيرة.