آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

الفضائحيات والتعامل الناري

ورد عن الإمام الباقر : قال رسول الله ﷺ: من كف نفسه عن أعراض الناس أقال الله نفسه يوم القيامة، ومن كف غضبه عن الناس كف الله تبارك وتعالى عنه عذاب يوم القيامة» «الكافي ج 2 ص 305».

الحضارة الإنسانية المشرقة عمادها القيم الأخلاقية والتربوية التي تصاغ من خلالها الشخصية وترفدها بما يجعلها في قمة الرقي والتألق، فذلك الإنسان المكرم بعقل يزن الأمور وينظر في عواقب الخطى لا يرجى منه الانحطاط والخوض في الشهوات والاستجابة التامة للأهواء المتفلتة، بل المرجو منه احترام تلك الدعائم الفكرية والتربوية التي يشيد بها مجتمعا تسوده علاقات وازنة، ويتجنب فيها كل ما يؤدي إلى الإخلال بها وحدوث شرخ من فقدان الثقة وتجذير الكراهيات والخصومة، فالعلاقات الإنسانية تتحكم بها مجموعة من العوامل التي يمكنها أن تأخذ بها نحو التنمية والازدهار أو البرود والترهل، والإمام الباقر يشير إلى عاملي هدم يقوضان كل علائم الحب والانسجام، وهما: الخوض في أعراض الناس ولوك اللسان بسوء واستعراض خصوصياتهم وأخطائهم على الملأ من الناس، والعامل الآخر: اللغة النارية الحاطمة في التخاطب والتعامل لتنهدم على رؤوس الجميع العلاقات المستقرة، ولك أن تنظر إلى علاقات واعية تختفي منها هذه المعاول تماما، فإننا سنرى لغة الحب والثقة تبرز بمنسوب عال يليق بالإنسان العاقل.

جارحة اللسان لها الأهمية الكبرى في التأثير على مسار علاقاتنا وحفظ توازنها واستمرارها وتنميتها، وينشأ ذلك الاستقرار من احترام الآخرين وتجنب كل كلمة تسيء لهم أو تسبب لهم ألما، ومتى ما أخل المرء بمنظومة القيم التربوية والأخلاقية في التعامل اللفظي، فإن ذلك يقود إلى نتائج كارثية وتتسبب في إشعال خصومات وفتن تحرق الأخضر واليابس، وهناك - وللأسف - من لا يضع قيمة لكلمته فتنطلق منه الكلمات غير المسئولة والتي تضع الجميع في موقف لا يحسدون عليه، ومن تلك الآفات اللسانية التي استهان بها البعض فأضحت من مسلمات المجالس وفاكهته التي تقدم للجلساء، إنه التطرق لأعراض الناس والخدش فيها بسوء دون خوف من الله تعالى، مما يشعل فتيل الفضائحيات والاستيناس بنشر غسيل الناس وعثراتهم، غافلا ذلك المرء عن خطورة التطرق للأعراض والأنكى التساهل في ذلك وطرحها موضع التناول بلا دليل بل والتندر بها، والبعض يحركه غضبه فيرمي بكلمات لا يعي خطورة التصريح بها!!

ومن يتعاطى أعراض الناس بسوء شخص لا يملك أدنى مقومات التدين وذلك أن الدين قوامه الفضيلة ومكارم الأخلاق وحفظ الجوارح عن المنكرات والسوء، ومن لما تتجذر وتترسخ ملكة الورع عن محارم الله تعالى في النفس فتمنعها من الخوض في الأعراض، فهو لم يفهم حقيقة العبادة والمقصد الأسمى منها ألا وهو ملازمة التقوى، ولذا ينبغي على المرء تنقية لسانه وتهذيبه عن أي كلمة تصرح أو تلمح لعرض إنسان آخر، فعفة اللسان عنوان صحيفة وسيرة الملتزم الحقيقي فيكبح جماح نفسه، ويتخلق بأخلاق الله عز وجل الذي يستر على عباده العصاة ويفتح لهم باب الإقلاع عن الخطيئة والتوبة النصوح، والتي تعني الإقلاع عن الماضي ونسيانه والإقبال على الطهارة النفسية في المستقبل، وبدلا عن فضح الآخرين وهتك أستارهم فلينبر إلى نصحه وإرشاده وتوجيهه إلى طرق الإقلاع عن المعصية.

وقد يكون العامل المحرك لتناول الأعراض هو عامل نفسي مبعثه الزهو والتفاخر وحب البروز والتميز على الأقران بامتلاك الأسرار، فكأنه شاشة عرض إخبارية يمارس فيها هوايته المرضية بتشريح لحوم الناس، وبعضهم تتحكم فيه مشاعر الحقد والشعور بالنقص تجاه الآخرين فيحاول بكل طريقة تشويه سيرتهم وإسقاطهم من عيون الناس.

وعامل الهدم الآخر الذي يحذر منه الإمام الباقر في تحفته التربوية هو التعامل الانفعالي ورمي الكلمات النارية وإهانة من يتعامل معه على النطاق الأسري والاجتماعي، فنبرة الغضب سلاح دمار شامل يقلع شجرة المودة والاحترام والثقة والتعاون بين الناس من جذورها، ولا يفيده بعد ذلك الندم والتحسر على ما صدر منه فالكلمات الانفعالية رصاصات قاتلة تدمي القلب وتنشيء الخصومات والمشاحنات والقطيعة، وعلينا لقطع دابر المناكفات والنقاشات الساخنة التسلح بضبط النفس والتمرس على تجنب الخطابات في لحظات الغضب، فالشجاعة الحقيقية تتجلى في حكمة الموقف والكلمة وحسن التصرف مع بروز بوادر الحدة والانفعال، وتأجيل أي رد أو اتخاذ موقف وقرار إلى وقت آخر نتحلى فيه بهدوء النفس والاتزان الفكري والوجداني.