آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:06 ص

فتح كربلاء ”2“

محمد أحمد التاروتي *

جسدت معركة كربلاء قيما، فرضتها نفسها على الثقافة الإسلامية، فهذه الملحمة وضعت ضربت بعرض الحائط جميع القوانين المادية الحاكمة، نظرا لوجود معادلة غير متكافئة، خصوصا وان الميزان المادي والعسكري، غير متوازن على الاطلاق، فالجيش الاموي الجرار يتجاوز في اقل التقادير 30 الف جندي، فيما معسكر سيد الشهداء لا يتجاوز 72 شخصا، وبالتالي فان المنطق المادي والعسكري يفرض الرضوخ والاستسلام، وعدم المجازفة والدخول في مواجهة محسومة سلفا.

معركة الطف اضافت فتحا جديدا على المفاهيم المادية السائدة، من خلال وضع المعايير الإلهية في المقدمة، واستبعاد المنطق المادي، باعتباره ليس حاكما في تجسيد الرسالة الخالدة، فالدخول في ”دوامة“ المفاهيم المادية، يقود الى التثبيط والركون الى قانون الربح والخسارة الظاهرية، ”كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين“، وبالتالي فان رسالة كربلاء أحدثت انقلابا، في التعاطي مع المعطيات المادية بطريقة مختلفة، خصوصا وان المنطلقات المادية ليست قادرة على الخلود، وغير قادرة على احداث اختراقات حقيقية، في الوجدان الإنساني، والمفاهيم السائدة في الثقافة الاجتماعية.

الوقوف امام جميع المغريات، وتحدي العوامل المادية، عناصر بارزة في رسالة الطف الخالدة، فهي بمثابة احد مفاتيح ”الفتح“ لهذه المعركة الدامية، فقد صاغت الكثير من القيم على الصعيد الأخلاقي، والمرتكزات الفكرية، الامر الذي تمثل في القدرة على المواجهة، والصمود، ومقاومة الظروف، وعدم الرضوخ لمنطق الخوف، خصوصا وان قلة الناصر ليست سببا في التخلي عن المبادئ، او بيع المواقف الثابتة، مقابل الحفاظ على ”حياة الذل“، ”ألَا وإنِّي زاحِفٌ بهذِهِ الأُسرةِ على قلَّةِ العَدَدِ، وكَثرةِ العدُوِّ، وخِذلانِ الناصر“.

مفاهيم انتصار الكثرة امام القلة تهاوت، بشكل واضح خلال معركة كربلاء، مما احدث حالة من المراجعة الداخلية، لدى السواد الأعظم من الامة الإسلامية، بحيث ترجمت في الكثير من المواقع، والمواقف على الصعيد الاجتماعي، والصراعات السياسية، فهناك الكثير من الفئات وضعت واقعة الطف معيارا، في التحرك باتجاه احداث التغييرات الحقيقية في الفكر البشري، ومحاولة تحريك المياه الراكدة في الثقافة السائدة، لاسيما وان وقوف سيد الشهداء امام الجيش الأموي في يوم عاشوراء، يشكل منعطفا حقيقيا في المفاهيم السائدة لدى الكثير من المجتمعات البشرية، الامر الذي يشكل حالة فريدة من نوعها، واحدى الانعكاسات الكثيرة لملحمة ارض الطفوف.

عملية انتصار القلة على الكثرة في المعارك المصيرية، تتجاوز النظرة المادية المحدودة، وغير الواعية، خصوصا وان معركة كربلاء الدامية تركت أجساد الشهداء مخضبة بالدماء، بيد ان ملامح الانتصار بدأت ارهاصاتها، بعد عودة ركب السبايا الى الكوفة، فالخطب التي القاها الامام السجاد ، وكذلك السيدة زينب ، والسيدة فاطمة بن الحسين ، أحدثت أصداء كبيرة في مجتمع الكوفة، بحيث تمكنت تلك الخطب في تغيير المزاج الاجتماعي بالمجتمع الذي ارتكب اعظم جريمة في التاريخ، الامر الذي دفع اهل الكوفة لمناشدة الامام علي بن الحسين بقولهم ”نحن يا بن رسول الله، سامعون مطيعون حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فأنا حرب لحربك، وسلم لسلمك، نبرأ ممن ظلمك وظلمنا“، فأجابهم الإمام علي السجاد: «هيهات، هيهات، أيها الغدرة المكرة، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى أبي من قبل، كلا ورب الراقصات".

معركة كربلاء نموذج حقيقي لمعنى ”الفتح“، حيث ما تزال اثار ارض الطفوف ماثلة امام العالم، فهناك الكثير من العبر المستوحاة من مواقف يوم عاشوراء، مما يجعل قصرها ضمن إطارات ضيقة، لا ينسجم مع الحقائق على ارض الواقع، خصوصا وان مفاهيم ”الفتح“ تتجاوز الكثير من المفردات المحدودة، نظرا لقدرة واقعة كربلاء على رفد العقول والإنسانية، بالكثير من الدروس ذات الأثر الكبير على المجتمعات البشرية.

قال الامام الحسين في رساله الى نبي هاشم " اما بعد فان من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح"

كاتب صحفي