آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

كربلاء ثورة القيم الإنسانية

علي محمد عساكر *

السلام عليك يا أبا عبد الله، وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، وأناخت برحلك، عليكم مني سلام الله أبدا ما بقيت، وما بقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم أهل البيت، السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، والسلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته.

لم تكن ثورة عاشوراء التي فجرها الإمام الحسين على أرض كربلاء القداسة والجلال في وجه يزيد بن معاوية وحكومته الطائشة هي الثورة الوحيدة في التاريخ، بل كانت قبلها كما حدثت بعدها الكثير من الثورات.

ولكن في المقابل لم يكتب الخلود لأية ثورة كما كتب لهذه الثورة العظيمة، التي منذ أن قام الإمام الحسين بتفجيرها وإلى يوم الناس هذا وهي ما زالت تنبض بالحياة في وجدان الشيعة خصوصا، وفي ضمير كل حر أبيّ، ينشد العزة والكرامة في الحياة، ويأبى حياة الذل والخضوع على وجه العموم.

يقول عبد الحسيب طه مبينا مدى التفاعل العاطفي مع ثورة أبي عبد الله الحسين ومأساته الخالدية : «الواقع أن قتل الحسين رضي الله عنه على هذه الصورة الغادرة - والحسين هو من هو دينا ومكانة بين المسلمين - لابد أن يلهب المشاعر، ويرهف الأحاسيس، ويطلق الألسن، ويترك في النفس الإنسانية أثرا حزينا داميا، ويجمع القلوب حول هذا البيت المنكوب.

وأيّ رزية عدلت حسينا
غداة تبينه كفّا سنان

نعم، ولابد أن يكبر الناس هذا التنكيل الجائر، والتمثيل الشائن، بعترة الرسول صلى الله عليه ”وآله“ وسلم وسلالته، وفلذة كبده، وقرة عينه، ويروا فيه إذاية له، وكفرنا بحقه، وتعرضا لغضبه

ماذا تقولون إن قال النبي لكم
ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي
نصفٌ أسارى، ونصفٌ ضرّجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم
أن تخلفوني بشر في ذوي رحمي

فبهذا وأمثاله قامت النائحات في العواصم الإسلامية، يندبن الحسين، ويبكين مصرعه، وبهذا وأمثاله انطلقت الألسن الشاعرة ترثي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه ”وآله“ وسلم، فتصور أسف النبي صلى الله عليه ”وآله“ وسلم، في قبره، وحزنه على سبطه، واحتجاجه على أمته، وتلقي على بني حرب سوء فعلهم، وفتح ضلالهم، وجور سلطانهم، وتسجل - في صراحة وعنف - مروقهم عن الدين، انتهاكهم لحرم الله»

نعم، لقد تجاوبت الدنيا مع الإمام أبي عبد الله الحسين وثورته المظفرة، ومأساته الدامية، فبكته العيون، ولهجت باسمه الألسن، ومجدته البشرية جمعاء، بعد أن أصبح أمير القلوب، ومعشوق الجماهير من كل ملة ودين.

وكما يقول السيد جواد شبر: «كانت ثورة الحسين غطّت بسناها المشارق والمغارب، واستخدمت العقول والأفكار، فهي نور يتوهج في قلوب المسلمين فيندفع إلى أفواههم مدحا ورثاء، وهي أنشودة العزّ في فم الأجيال، تهزّ القلوب وتطربها، وتحيي النفوس بالعزائم الحية، ذلك لأن هدف الحسين ما كان هدفا خاصا حتى تختص به فئة دون فئة، أو يقتصر على طائفة دون طائفة، بل كان هدفا عالميا، فعلى كل ذي شعور حي أن يحتفل بذكراه».

ولا شك أن هناك مجموعة من العوامل الكبيرة والمهمة أدت إلى هذا البقاء والخلود، وجعلت البشرية كلها تلهج باسم الحسين، وتحتفل بذكراه في كل وقت وحين.

ولأنه من الصعب جدا عرض جميع تلك العوامل والحديث عنها في هذه الكلمة المقتضبة، فلا بأس بالإشارة إلى عامل واحد منها، إن لم يكن هو أهم تلك العوامل على الإطلاق، فلا شك أنه من أهمها، ذلك هو عامل «القيم الإنسانية» المتجسد في الثورة الحسينية وقائدها العظيم، وأبطالها الأشاوس، بمعنى أن من ضمن عوامل خلود ثورة كربلاء أنها ثورة من أجل القيم الإنسانية عامة.

والذي نعنيه بهذا الكلام هو أن الإمام الحسين لم يفجر ثورته المظفرة طمعا في ملك، ولا منافسة في سلطان، ولا سعيا وراء حطام، ولا بحثا عن وجاهة... وإنما فجرها دفاعا عن المثل العليا، والقيم الإنسانية الفاضلة، كالعدل، والحق، والحرية، والعزة، والكرامة، والإصلاح في الأمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فثورة كربلاء ليست حربا بين أشخاص لخلاف شخصي بينهما، ولا هي من أجل أمور خاصة ينشدها سيد الشهداء من ثورته المقدسة، بل هي ثورة الفضائل على الرذائل، وحرب القيم العليا التي بها يسمو الإنسان، ويرتفع إلى أوج العزة والكرامة، ويصبح ملاكا كريما يمشي على الأرض، ضد القيم الدنيا التي تُخرج الإنسان من إنسانيته، وترده إلى أسفل سافلين، ليصبح كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، وهي لاهية عما يراد بها.

وكما يقول منيف لطفي: «إن الصراع بين الحق والباطل قديم، رافق الإنسانية في جميع مراحلها، وقد بلغ هذا الصراع الذروة في حالات كثيرة، من أبرزها ذلك الذي احتدم بين الحسين وأنصاره الأبرار من ناحية، وبين يزيد وزبانيته وعملائه من ناحية أخرى، ولم يكن - في الواقع - صراعا بين رجلين أو فئتين، وإنما كان بين اتجاهين في الحياة:

اتجاه نحو الخير، والكرم، والأريحية، والحرية، والعدل، وكل ما يرتفع بالإنسان من درك الحيوانية إلى أوج القداسة والبراءة والنقاء.

واتجاه نحو الشر، واللؤم، والاستعباد، والظلم، وكل ما ينحدر بالإنسان إلى حضيض المهانة والانحطاط».

وهذا ما يتجلى لنا من خلال مواقف وخطب وبيانات الإمام الحسين المتعددة، التي بيّن من خلالها أهداف ثورته، وأوضح غاياتها، والتي من أشهرها وأوضحها قوله : «إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي رسول الله، وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ علي أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم الظالمين وهو خير الحاكمين»

وبشيء من التأمل في هذا البيان الحسيني العظيم يمكننا أن نستخلص النتائج التالية:

أولا: لقد افتتح الإمام الحسين بيانه هذا بمحاولة تنزيه ثورته المقدسة من كل شائبة، أو غرض دنيء، وذلك بأن أكد بأنه لم يكن هدفه من تفجيرها أن يستعلي ويستكبر في الأرض بغير الحق، أو أن يفسد في البلاد، ويكون ظالما للعباد.

ثانيا: حصر الهدف من ثورته في أنه يريد الإصلاح في أمة جده، وأن يسير فيها بسيرته ﷺ، وسيرة أبيه أمير المؤمنين .

وقد أكد هذا الحصر بأداة «إنما» التي هي أقوى أدوات الحصر، وفي هذا زيادة منه في التأكيد على نفي أن تكون له أية غاية رخيصة من ثورته هذه، وأنه فعلا لا يهدف من ورائها إلا إلى الإصلاح.

ثالثا: بيّن أن ثورته الإصلاحية ليست على مستوى فرد أو أسرة أو مجتمع، بل هي ثورة كبرى، وعلى مستوى الإمة الإسلامية بكاملها.

وهذا يوضح لنا مدى حجم الفساد والانحراف، وأنه لم يكن بسيطا، ولا هو محصور في مجتمع واحد، أو بلدة واحدة، بل هو فساد عظيم، وانحراف كبير، انتشر انتشار النار في الهشيم، وتمدد وتوسع ليشمل الأمة الإسلامية بأسرها.

رابعا: كذلك يجب أن نلاحظ أن الإمام الحسين أطلق كلمة الاصلاح اطلاقا، مما يعني أن ذلك الفساد الذي بليت به الأمة الإسلامية لم ينحصر في أمر معين، بل هو واسع ومتشعب، ويكاد يكون شاملا لمختلف الحقول والميادين، فهناك انحراف ديني، وأخلاقي، واجتماعي، واقتصادي، وسياسي...

وكل هذا مما أثبته تاريخ تلك الحقبة الزمنية بما لا مزيد عليه، وهو أيضا ما أكده المصلح الأكبر، الإمام أبو عبد الله الحسين في بعض بياناته المتعلقة بثورته المظفرة، حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: «أيها الناس إنّ رسول الله قال: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً حرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباده بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غَيَّر»

وهذا البيان الحسيني كما يوضح لنا مدى حجم ذلك الفساد وسعته وانتشاره، وتوسعه ليشمل كل شيء، ويصبح على جميع الأصعدة والمستويات، كذلك يؤكد لنا أن ثورة الإمام الحسين ثورة إصلاحية كبرى وشاملة، هدفها القضاء على الفساد في كل أوطانه بكل أشكاله.

خامسا: لقد بيّن الإمام الحسين أن سبب قيامه بهذه الثورة الإصلاحية المباركة إنما هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كتكليف شرعي، وواجب ديني واجتماعي، به يكون صلاح المجتمعات، وحفظ القيم الإنسانية، وكذا من أجل إحياء الدين، والسير في الأمة بسيرة جده خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، إذ أن ذلك الدين العظيم وتلك السيرة المطهرة هما الجامعان والحافظان لتلك القيم الفاضلة، وبهما يتحقق ذلك الإصلاح الاجتماعي العظيم.

سادسا: إنما ألحق سيرة أبيه المرتضى بسيرة جده المصطفى، وأوضح أنه يريد أن يسير بهاتين السيرتين الطاهرتين، ليبيّن أنهما - واقعا - سيرة واحدة، إذ أن الوصي هو نفس النبي بشهادة آية المباهلة، وعلاقته به ﷺ علاقة الرمش بالعين، والذراع بالعضد، بل الرأس بالجسد، والروح بالبدن، كما أنه كان يتبع رسول الله إتباع الفصيل أثر أمه في كل شؤون حياته، ولم يجد له رسول الله كذبة في قول، ولا خطلة في فعل.

سابعا: أكد أنه لا يريد من أحد أن يلتحق به ويسير في ركابه لشخصه، وإنما لشرف رسالته وقدسية ثورته، كونها ثورة محقة لأنه سيفجرها نصرة للحق الذي هو من أقدس القيم الإنسانية وأعظمها.

وهذا مما يؤكد نزاهة الثورة وطهارتها، وأن مفجرها لم يفجرها إلا من أجل أن يقدم نفسه قربانا، ويذهب شهيدا في سبيل نصرة الدين، وحفظ كرامة الإنسان، وصون شرفه وحريته.

ثامنا: أكد أنه في حال ردت الأمة عليه، وتخاذلت عن نصرته في ثورته التي لم يقم بها إلا من أجلها، فإنه سيصبر حتى يحكم الله بينه وبين القوم وهو خير الحاكمين.

وهو تأكيد يبيّن مدى عزم الإمام الحسين على تفجير ثورته الإصلاحية الكبرى، وثباته على موقفه في مواجهة يزيد وحكومته الطائشة، التي هدرت كرامة الإنسان، وسلبته حريته، حتى لو أدى الأمر إلى أن يستشهد هو وأهل بيته وأصحابه في سبيل استعادة تلك الكرامة المهدورة، واسترجاع تلك العزة المنهوبة، والحرية المسلوبة، وهو ما عبر عنه بقوله : «ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك، ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام»

وكل هذا يؤكد لنا - وبما لا يدع مجالا للشك والريب - أن ثورة الإمام الحسين هي فعلا ثورة مثل عليا، وقيم فاضلة، ومبادئ كريمة، عنوانها «الحق» وهويتها «الصدق» وغايتها «العدل» وشعارها «العزة والكرامة والفضيلة» وهدفها «الإصلاح في الأمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» بكل ما لهذه القيم الإنسانية الفاضلة من معنى.

وهذا - كما أشرنا - من أهم عوامل وأسرار خلودها منذ تاريخ تفجيرها سنة «61» للهجرة وإلى يوم الناس هذا، وستبقى حية وخالدة في الضمير الإنساني، يتغنى بها كل الأباة والأحرار في العالم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك أن القيم الإنسانية هي الأصول أو القواعد المشكّلة للمنظومة الأخلاقية المشتركة بين الناس، بمعنى أنها تمتاز بالعموم والشمولية، فيعشقها الناس كلهم بغض النظر عن لغاتهم ومناطقهم ومللهم ونحلهم، كما أنها تتصف بالخلود والبقاء، فهي لا تبلى ولا تفنى، ولا تؤثر فيها عوامل الزمان والمكان، فمهما تقدم الإنسان وتطور في حياته سيظل محتاجا إلى تلك القيم، متيما بحبها، عاشقا لها، لميله الفطري إليها، وجبلته الإلهية عليها، ولعلمه اليقيني بأنها زينة الحياة الدنيا، وأن الحياة بدون قيم ولا أخلاق تتحول إلى جحيم لا يطاق.

ولأن ثورة أبي عبد الله هي ثورة هذه المثل والقيم، خلدت بخلودها، وبقيت ببقائها، وجذبت الناس إليها كالمغناطيس، وحظيت بما لم تحظ به أية ثوة أخرى في التاريخ من الاحتفاء والاهتمام عند البشرية جمعاء، وعلى مستوى العالم بأسره.

ولم يكن الاحتفاء بهذه الثورة المقدسة محصورا في لون دون آخر، بل كان الاحتفاء بها تاريخيا وفكريا وثقافيا وأدبيا وفنيا... كبيرا جدا، فتم توثيقها في المؤلفات التاريخية العامة، وفي المؤلفات التاريخية الخاصة بها المقصورة عليها، كما كتبت حولها وفيها المقاتل والمجالس، وقدمت عنها الدراسات التحليلية والنقدية، وصولا إلى الروايات والمسرحيات والرسم والشعر والأدب... سواء باللغة العربية أو غيرها، حتى استطاعت هذه الثورة العظيمة أن تغني الفكر الإنساني على مختلف الأصعدة والمستويات بما لم تغنه أية ثورة أخرى في التاريخ!