آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

بأي حال أوصف حزنك يا مأتم

عبد العظيم شلي

لنا مأتم ينوح الحسين طوال 138 عاما، هكذا بلغنا من الوالد والأعمام والعمات، نقلا عن والدهم حجي مكي بأن أباه حجي كاظم محمد آل شلي هو الذي أسس المأتم، وتشير الصكوك القديمة التي بحوزتنا، بأن الأرض اشتراها جد الوالد حجي كاظم كسهم أول من عائلة المقالدة عام 1300 هجرية بقيمة «30 قيرانا، عبارة عن اثني عشر ربية فضة هندية في السكة السالكة» بينما اشترى السهم الثاني للأرض من عائلة الحاج محمد الظريف بقيمة «اثنان وعشرون ونصف قرانا، عبارة عن تسع ربيات فضة هندية»، وقد بنى الأرض حجي كاظم في نفس عام الشراء بهدف إدخال المبنى الجديد توسعة لبيته تحت مسمى ”مربعة بيت شلي“، عبارة عن مجلس كبير معد لاستقبال الضيوف، ثم تحول المكان وقفا لخدمة مجالس عزاء الحسين، باسم ”حسينية بيت شلي“، وبعد رحيل المؤسس تولى رعاية المأتم جدنا حجي مكي، ذو الشخصية المرموقة، واحد من طواويش الغوص المعروفين، كان وكيلا لأوقاف عائلة السنان والمشرف على بساتينهم المنتشرة في الجزيرة، وبأيدهم السخية قدموا الدعم للمأتم خلال عشرة محرم وايام ”الوفايات“ طوال الربع الاول من عمر المجلس، ويشهد الراحلون من رجالات البلدة عن مأتمنا العريق في بعده الزمني، المعروف ب ”حسينية بيت شلي“، مأتم متوارث يصنف ضمن ستة مجالس قديمة، حيث يقبع في الجهة الغربية من مسورة قرية الديرة بفريق البستان، وعلى بعد خطوات من القلعة الأثرية ”قصر تاروت“.

ومن أجواء هذا المأتم الضارب في القدم تشنفت الأسماع لمسافة قصيرة، ببضعة أمتار يسمع صوت الخطيب قبل سنين الكهرباء، ودخول مكبرات الصوت، مكان حمل الأنين والبكاء بين جدرانه وساباته الضيق الذي احتضن نسوة الحي، الملتحفات بسواد الحزن، مرت وجوه ورجال وشخصيات صعدت الأدراج الحجرية المسيجة ب ”محجر خشبي“ تصعد شوقا لاستماع الملا ليأخذهم تصويرا لواقعة الطف الملتهبة في عمق التاريخ، نفوس ترتقي الدور الأول وتفترش على ”الحصر والمديد“ وجوه أتت بطيبتها ويقينها المتوارث، وقلبها النابض بحب الحسين وإحياء للمصيبة.

كم من الخطباء توالت جلوسا على منبر الحسينية وكم من الأصوات صدحت بأعلى الصوت ”حسين يا حسين“ يضج المكان بإيقاع أصوات الولاء، ومن على عتبات المنبر انطلقت بدايات بعض الخطباء وذاكرتهم شواهد مسجلة.

كانت الحسينية ضمن مبنى العائلة الكبير وهو المبنى الوحيد في الديرة التي تستطيع أن تلتف دائريا على محيطه مشيا على الأقدام والمكون من دورين بالإضافة للدور الأرضي، والجزء المختلف من المبنى هو حيز الحسينية حيث جماليات المعمار من خلال النقوش الجبسية والأعمدة الشامخة والأقواس المتقاطعة، ترسم جلال المكان.

عيوني طفل تحمل بواكير الدهشة، عن عزاء قادم من حي الدشة، أتنقل بين غرفتين فوق سطح الحسينية و”حوش“ مفتوح على السماء، حيث كنا نسكن مع الوالدين.

نادتني أمي وهي تقول لي: «اسمع اسمع تعال طل من الدريشة شوف العزاء جاي لحسنيتنا» امسكت بقضبان النافذة وعيني كعين طائر ترمق حلقتين من الرجال تهوي على صدورها ضربا مزلزلا وهم يتحركون مشيا بطيئا ويتلون باعلى اصواتهم الحزينة «حس ابو الفضل طاح يم الشريعة، قوم شيله ياحسين حامل الوديعة» ويتكرر المشهد ايقاعا ومن خلفهم بيت الجشي ذاك البناء الذي لم يزل شامخا الى اليوم، اصوات تقترب منا ريدا رويدا وعند الباب هدأ الجمع وبقي صوت الخطيب يتصاعد انينا، حينها بكت امي وبكيت معها وهي تقول «هذا يوم العباس ساقي عطاشى كربلاء، الهي بغربة الحسين» اثناء سماعي ”شيلة العزاء“ تصورت بأن العباس وهو على صهوة جواده ارتطما ارضا بصوت مدوي اسمع الأنصار والأعداء ”احطم“ والقربة يتناثر ماؤها في الفضاء، واتحسس خيالا بأن الاثنان يصارعان الموت وسط لهيب الشمس وشدة الظمأ وقسوة الاعداء، والنداء يستفز الامام الحسين بأن يذهب حالا لرؤية اخيه العباس لينقذه او ينتشله من هول المصاب، لكنه الفاه صريعا على ضفاف المشرعة «الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي» هكذا ابلغتني امي وردده خطيب الحسينية ببعض من تراجيديا كربلاء مع ذلك المشهد المهيب الذي لم يزل يسكن الذاكرة.

ذلك أول عزاء تراه عيني بعمر ستة أعوام إلا قليلا، ولم يزل هذا المشهد وما تلاه مؤثرا في وجداني ويهز كياني إلى حد الآن، حيث لا أستطيع وصفه بالكلام كاملا أمام أي أحد، ومرات قصصته أمام الأصدقاء وأولادي لكن البكاء يغالبني برغم دمعتي عصية حتى وقت المقتل إلا ما نذر، ولم أعرف السر الذي يكمن في إجهاشي بالبكاء باستعادة ذلك الموقف الموغل في القدم على الرغم من مرور 55 عاما على ذلك المشهد المهيب الحاضر حزنا في الذاكرة، هل لأنه محمل بأرث الطفولة وبراءة تفتق الحواس أم لوصف أمي البالغ أثرا في وجداني مع تشبيهات النسوة المفجع، لست أدري أي شجن خلف حزنا مستداما في نفسيتي.

ويتقاطع مع هذا المشهد جو ملحمي آخر يختلط فيه الفرح بالحزن في آن، شهدته صغيرا في فضاء حسينيتنا، وتلوته ضمن سياق مرثية أمام الحضور وقت رحيل الخطيب المشهور ملا خليل أبو زيد قبل 5 سنوات. واصفا تفتق المخيال بحضور هذا الخطيب الكفيف بصرا المليء بنور الفؤاد والقريحة بصيرة.

يا ملا خليل ياذا الصوت المبحوح، اللاهج والمتوهج هياما في حب أبي عب دالله، لله ذرك يا خادم الحسين،

لسنين خلت استقبلتك المجالس وعطرتها بأنفاسك، وأقمت فيها صروحا من بلاغة تراث كربلاء الخالدة، منذ نعومة أظفارك أخذتك بيئة الديرة إلى الأجواء الكربلائية المليئة بالخطباء والخطيبات فألهبت مشاعرك، لكم نكبر فيك عشقك الحسيني منذ الصغر، يا مهل الدمعات في أروقة المآتم، يارافع الرايات نياحة في أفئدة المستمعين، يا شامخا بمناقب أهل البيت والرسل، سار على دربك الكثيرون. قبل خمسين عاما يأمرني عمي عبدالرسول بإمساك يدك ياملا خليل لأوصلك لعتبات المنبر، وفي يدك الأخرى الميكرفون اليدوي، تترجل بصوتك الهادئ بداية وتنهيه بإيقاعات مجلجلة من الأحزان تلو الأحزان، أسمعتنا صهيل الخيول وصليل السيوف وشهقات الأرواح، عبر حنجرتك التي تغيب تجليا في الزمان والمكان، هنا في ”مأتم بيت شلي“ الذي يعد من أقدم المآتم، تحضر لنا كربلاء بكل عظمتها وعنفوانها في المخيال العاطفي، شعرا ووصفا وندبا، تتفنن ياملا خليل بتلاوين طبقات صوتك، يهزني نشجيك بكاء ضحى يوم الثامن من محرم، حينما تتلو بأنين مفجع «يابني هاشم قوموا زفوا الجاسم»، «كبش الكتيبة قوم..بس عاد من هالنوم، زف مهجة المسموم.. عالزوجته اسكينة..دنهض يبوفاضل.. يالضيغم الباسل، هذا مهو قابل..نسوان يزفونه، عريس بعده شاب..طيب وابن اطياب..هذا يصير امصاب..نسوان ايزفونه بالمجتبى نادي..والوجد بفاده ياسيد السادة..ابنك بيعرسونه..» وفي خضم هذا الجو الغرائبي أتبع أعمامي «عبدالرسول وعبد علي» وهما يتخطيان بين الصفوف وعلى رأسيهما صواني الشموع وفي أيديهما البخور وأنا أرش ماء الورد البارد على المستمعين، ويختلط مع بلل دموعم الدافئة، زغاريد «خضير الحمام» الآتية من عند موقد النار، كأنها الحان جنائزية، مشهد تراجيدي يتحول الفرح المحزن إلى أشجان باكية، يضج المأتم بالنحيب وبأجوائه المعتمة سوادا في سواد، عيون ساكبة تذرف الدمع مدرارا كل عام.

ذات مرة عاتبتك في خاطري يا ملا خليل «ابغاك لو سنة وحدة في مأتمنا ما تقتل لينا أبو فاضل..»! براءة التهبت مشاعرها من بلاغة الوصف وحسن تصوير جحيم المعركة، حيث البطولة والإقدام، والعطش والميدان والحر، والتضحية والشهادة والإباء وانتصار الدم على السيف.

إيه يا ملا خليل يامن صورت لنا كربلاء في فضاء حسنيتنا أنت ولفيف من الخطباء في أروع وصف، ومن ضمنهم ملا محمد المسيري وملا جمال الخباز وملا منصور القطري، وملا علي الطويل وملا عيسى بن عباس وملا عبد علي الصفار، ومن الجدد الشيخ مهدي المصلي وملا صادق القطري، خطباء توالت حضورا على منبر حسنيتنا، والذكرى موغلة في تفاصيل مفعمة بالحنين لعيون بكت على مصاب الحسين.

أي عظمة تحملها كربلاء التي لم تزل حية في النفوس مشتعلة، نتوارث الحزن والنحيب أجيال بعد أجيال.

وآه وألف آه يا مأتمنا، فمنذ 138 عاما ومنبرك يصعد عليه خطباء وخطباء كثير رحلوا عن دنيانا وأتى خطباء جدد، والمبنى جدد مطلع الثمانينيات وتغيرت معالم المكان لكن عاشوراء ظلت حاضرة في كل عام الا هذا العام 1442، حيث ارتأى أخي عبد الحي القائم على الحسينية من بعد عمي عبد الرسول الذي فوضه جدي في رعاية الحسينية قبل موته من دون إخوته، أخي وأولاد عمي عبد الرسول وعبد علي، قرروا عدم إقامة العشرة لهذا العام بسبب صغر الحسينية وعدم استيعابها للقادمين من المستمعين وذلك خوفا من عدوى الوباء الجاثم على الصدور.

إيه بأي حال انظر لك يا مأتم الحزن وبأي حال ازداد وصفا لمكانتك في القلوب، ففي هذا العام حزننا مضاعف حزن المصيبة وحزن على عدم تلاوتها في كنفك، لقد حرمنا جلوسا في فضاؤك يا مأتم.

ماذا أقول عند قبور الأعمام والعمات بأن مأتمنا توقف هذا العام!، الله اعلم بالحال وهناك كثير من المجالس لم تكن كسابق عهدها، يا وباء إرحل عنا فالدمعة ساكبة في الأحداق لم تزل تبرق في مأتمنا وسوف تتجدد لمعانا وحرارة مطلع العام القادم بمشيئة الله، عظم الله أجورنا وأجوركم أيها الوافدون على باب حسينيتنا الشاهدة على حب الحسين منذ 138 عاما، وأحسن الله لكم العزاء يا محبي آل البيت في كل مكان.

صور من حسينية بيت شلي