آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

عندما تصيب بعض سهام النقد قبعتي

عبد الله العوامي *

لكل منا قبعة أو أكثر. قبعة العائلة، الحي، المجتمع، المنطقة، الطائفة، المذهب، الفريق الرياضي، العالم، الخطيب، الطبيب، الباحث، المؤلف... والكثير الكثير من القبعات.

رمزية القبعة تحتل مكانة خاصة عند المجتمعات، وتختلف مكانتها من شخص الى آخر. وتزداد نسبة رمزية القبعة حسب عمق الانتماء، الولاء، الحب، الاحترام، التقدير، التعاطف لهذه القبعات بنسبة أو بأخرى ومن شخص الى أخر أيضا. وهذا التوصيف لعمق رمزية القبعة ليس بالضرورة نتاج عقلي أو منطقي.

تفاعل الناس في نقد احدى قبعاتهم تختلف أيضا على حجم القبعة ومكانتها وتختلف أيضا بمقدار حجم الرأس الذي يحمل تلك القبعة وما يملكه ذلك الرأس من معرفة وحكمة. في توصيف سريع للحركة النقدية في مجتمعاتنا، هناك ثلاث شرائح في التعامل مع النقد:

الشريحة الأولى - المشتغلون بالنقد الموضوعي الواعي: هذه الشريحة تصوب سهامها بمرونة على قبعات واضحة ومحددة. هذه الشريحة تحترم قواعد النقد الموضوعي وتتمتع ب:

  • ارتفاع نسبة المخزون المعرفي لديهم والفهم العميق للفكرة موضوع النقاش.
  • امتلاك الأدوات العلمية اللازمة في تقديم الأدلة النقدية.
  • حيادية مقبولة، وان كان من الصعب بمكان تحقيق ذلك، فمعظم الناس متأثرون بالانحيازيات الادراكية.
  • نقد الفكرة المجردة، بعيدا عن الشخصنة.
  • ذكاء عاطفي يحترم صاحب الفكرة موضوع النقاش.

الشريحة الثانية - المشتغلون بالإنتاج المعرفي المرحبون بالنقد: وهذه الشريحة تضم بعض الرموز العلمية من محاضرين وكتاب، وغيرهم من الذين لا يخافون بتوجيه السهام الى قبعاتهم، حيث يتسم هؤلاء بـ:

  • ارتفاع نسبة المخزون المعرفي لديهم في تقديم أدلة علمية لصمود أفكارهم.
  • يشجعون النقاش والمناظرة من اجل تصحيح المسار وبلورة الأفكار.
  • يشعرون بالسعادة لأن أفكارهم ساهمت في خلق حراك ثقافي.
  • يقبلون بما يفضيه النقاش من نتائج.

الشريحة الثالثة - المشتغلون بالضجيج وإثارة الصخب في معارك النقد: هذه الشريحة ترسل سهامها بعشوائية من كل حدب وصوب لمختلف القبعات. وهي عادة تغرد خارج سرب النقد الموضوعي وتدافع عن قبعات وهمية، بينما رؤوسها لا زالت مكشوفة. في الوقت نفسه، هذه الشريحة لازالت حاضرة ومنتشرة بألوان وأشكال مختلفة. أفراد هذه الشريحة يحملون صفة أو أكثر من الاخلاقيات التالية:

  • تحويل النقد الى معارك شخصية من اجل الحصول على انتصارات وهمية.
  • الانشغال بسجالات وبدون نهاية من أجل طمس الحقيقية.
  • تحويل قبعة موضوع النقاش الى قبعة مقدسة، وبالتالي تضيق مساحة حرية النقاش.
  • ضحالة المعرفة بثقافة النقد وأدواته.
  • الولاء العاطفي المنقطع النظير للقبعة، وينطبق عليهم المثل: ملكيون أكثر من الملك نفسه.
  • التدني في المخزون المعرفي لديهم، وتفاعلهم يثير ثقافة الكراهية.
  • السعي لعمل الضوضاء حبا في البروز والشهرة.
  • الهروب الى الامام كيلا يعترفون بالخطأ.
  • التحسس من النقد، وكأنه موجه لشخصياتهم وليس لأفكارهم.
  • التبني لقضية «ضد الاخر» كقضية وحيدة وبتفصيل ممل.
  • التعصب والانحياز للقبعة وليس لمعرفة الحقيقة أو مناقشة الفكرة.

وهناك العديد من الأسباب الاخرى.

المجتمعات التي تقدمت هي التي شجعت ثقافة النقد وتفعيل أدواته بجدية وموضوعية وبمختلف الاساليب. واليكم بعض الأمثلة العامة التي لها علاقة بالموضوع بطريقة غير مباشرة. ونضربها هنا من أجل تقريب الصورة:

  • تهكير البرمجيات: تقوم شركات برمجة الحاسبات الالية «الكمبيوتر» لبعض التطبيقات المهمة كالبرامج المالية مثلا بتأجير شركات خاصة لتهكير برمجياتهم من أجل معرفة صمود هذه البرمجيات عند تنصيبها في شبكة الانترنت. النتيجة: البرنامج سيعتمد ليتم تنصيبه لاحقا إذا أدخلت عليه ملاحظات التهكير ان وجدت.
  • دروس البحث الخارج في الحوزة العلمية: حيث يقدم الفقيه استدلالاته لبحثه الفقهي او الاصولي ويقوم الطلاب الحضور بمناقشتها ونقدها بحرية تامة، وهنا تبرز قوة ومتانة الاستدلالات وصمودها أو عدمها عند الطلبة. الجميل هنا ان الطالب وبكل حرية ينتقد نظرية أستاذه. النتيجة: البحث سيعتمد أو ينشر بتذييل أو إضافة ملاحظات الطلاب عليه ان وجدت.
  • لقاحات الجائحة: في ظل جائحة كورونا، تقوم جميع المختبرات العلمية التي تنتج هذه اللقاحات بعمل تجارب مكثفة على شريحة واسعة من الناس وتختبر اللقاح عبر عدة مراحل من أجل معرفة قدرة ونجاعة اللقاح وصمود النظرية العلمية التي تبنته. وأي مختبر لم تتوفر لديه الاختبارات المكثفة والناجحة سيسقط لقاحه علميا. النتيجة: اللقاح سيعتمد إذا كانت النتائج مشجعة وناجعة.
  • مناقشة الأوراق العلمية: تعقد المؤتمرات العلمية في جميع دول العالم من اجل مناقشة الأوراق التي يتم اختيارها بعناية. حيث يقوم المختصون بالنقد والتمحيص لهذه الاوراق عند عرضها. النتيجة: الورقة البحثية يتم نشرها والاخذ بنتائجها مع بعض الملاحظات من المختصين ان وجدت.

في ظني المتواضع، مجتمعاتنا مؤهلة للإنتاج المعرفي الذي يستفيد منه الجميع - ولن تكون الاستفادة محصورة فقط لشريحة محددة بعينها - عندما تسود ثقافة النقد الموضوعي بين شرائحه المتعددة. ولعلي هنا أقترح بعض الأمور ومنها:

  • توسيع دائرة المنتسبين للشريحتين الأولى والثانية، وذلك بتشجيع المعنيين ودفعهم لتقديم اطروحاتهم أو انتقاداتهم بحرية تامة.
  • عقد لقاءات دورية مباشرة بين الشريحتين الأولى والثانية من أجل تخفيف حالة الطلاق الغير معلن بينهما.
  • حث الشريحة الثالثة لتخفيف تصويب سهامها العشوائية والتقليل من دفاعها عن قبعات وهمية.

أملنا كبير في الشريحتين الأولى والثانية بان يلتقيا مباشرة، حيث كلاهما يحملان سمة هامة، وهي التواضع للمعرفة والسعي الدؤوب لطلبها أيا كان مصدرها.