آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:39 م

المرحوم الصفار مسيرة بذل وعطاء

محمد الشيوخ *

ما بين ميلاده بداية شهر مارس عام 1954م وحتى وفاته بداية شهر أغسطس عام 2020م، رحلة حافلة بالعطاء والانجاز، ناهزت 66 عاما، قضاها الفقيد السعيد الحاج المؤمن علي عبد الله الصفار، والذي بفقده أفجع قلوب محبيه وفقدت تاروت أحد أبرز خيرة رجالها الخيرين.

ولد الراحل ابو حسين في جزيرة تاروت، وترعرع فيها كسائر من ولدوا ونشأوا فيها الا انه ترك اثرا طيبا في حياته وسيظل صداه لأمد طويل، بعد ارتحاله الى جوار ربه. السر في ذلك يمكن فيما تميز به من حسن اخلاق ونقاء قلب وما قدمه من عطاء لمجتمعه. وكان منذ نعومة اظافره، لصيقا بمجالس الذكر، مما اتيحت له الفرصة في ان يتشبع باكرا بمفاهيم العطاء والبذل والتطوع والانفاق وخدمة الناس وقيم الاخلاق وحسن العشرة مع جميع الناس، وبلا استثناء.

انحدر المرحوم من أسرة عرفت بالمحافظة والتدين، وتربى على يد ابوين مؤمنين. وكان والده الوجيه المؤمن الحاج عبد الله الصفار «أبو علي» رحمه الله، الذي اسس مجلسا للذكر في منزله بتاروت «الدشة»، قبل نصف قرن من الزمان، كان هو الآخر، لصيقا بمجالس الذكر، سيما مجالس الامام الحسين . أشتهر مجلس العائلة المبارك باستقبال الناس وتلاوة القرآن الكريم في شهر رمضان وإقامة مآتم عزاء الأمام الحسين ، وما يتخلله من وعظ وارشاد أسوة ببقية مجالس الذكر في المنطقة. بعد وفاة والده «ابو علي» رحمه الله استمر المجلس تحت عناية واشراف ابنائه سيما الابن الراحل «ابو حسين»، بوصفه الاكبر من الذكور، ولازال المجلس قائما، وسيستمر - بمشيئة الله - ببركة جهود الاخوة والاولاد والاحفاد، وذلك لإكمال مسيرة الخير والبذل والعطاء.

بدأ الفقيد السعيد أبو حسين رحلته العملية في مرحلة الشباب كموظف في شركة كانوا عام 1977م بمدينة الدمام، وذلك بعد تخرجه من المرحلة الثانوية التجارية بمحافظة القطيف، ثم التحق بشركة كهرباء الشرقية «سكيكو». وفي عام 1982م، أي بعد عام تقريبا، من التحاقه بالشركة، أُبتعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإكمال مرحلة البكالوريوس «تخصص اقتصاد وإدارة أعمال». وبعد عودته لموطنه عام 1986م، تدرج في عدة وظائف في ذات الشركة أبرزها: ممثلا للعلاقات الحكومية، ثم مديراً لدائرة تصميم الهياكل التنظيمية ثم مستشاراً لرئيس قطاع التنظيم وتخطيط الموارد البشرية. وبعد ذلك أصبح مديراً لإدارة التنظيم وتخطيط القوى العاملة بالشركة، مما يدلل على فاعليته وعلو همته وينم ايضا عن ذكائه المتوقد وطموحه العالي.

وفي عام 1995م عمل الراحل على تأسيس مشروعات تجارية خاصة بمعية اخوانه كمؤسسة للمقاولات العامة ومواد البناء وأنظمة العزل وتجارة المواد الغذائية، وكان هو الرئيس التنفيذي لتلك المشروعات، والذي كان جزءا من ريعها يسهم في اعمال الخير ومساعدة بعض المحتاجين في المنطقة. بعد تقاعده أواخر شهر مايو من عام 2012م تفرغ بصورة أكبر لإدارة مشروعاته الخاصة. ولكنه خصص جزءا كبيرا من وقته ايضا للأنشطة الاجتماعية ودعم الاعمال والاطر الخيرية، ماليا ومعنويا وفكريا، كجمعية تاروت الخيرية مثلا، والذي كان أحد اعضاء فريق الهيئة الاستشارية لمجلسها الحالي، مما ساهم في توسيع رقعة علاقاته الاجتماعية ورسوخها. وهذا ما تجلى واضحا فور سماع نبأ وفاته رحمه الله.

قطعا لن نستطيع، من خلال هذه السطور المتواضعة، احصاء جميع اسهامات الراحل الخيرية والمتنوعة، سواء ضمن الجمعية او خارج أسوارها، وكذلك حصر مناقبه الاخلاقية الكثيرة، كما لن نتمكن ايضا من ايفائه حقه المستحق عبر هذه المساحة المحدودة. لذا سنكتفي بنقل بعض ما سمعناه أو أطلعنا عليه من خصال ومآثر المرحوم، سواء ما ورد منها على لسان بعض زملائه في الجمعية أو ما كتبه عنه بعض اصدقائه الاوفياء أو فيما صرح به بعض افراد اسرته، كنماذج وأمثلة ليس الا، لعلنا بذلك نتمكن من الاحاطة ببعض ابعاد شخصية الراحل المتميزة رحمه الله. فهذا على سبيل المثال، رئيس مجلس ادارة جمعية تاروت الاستاذ محمد الصغير يعبر عن بالغ حزنه وألمه بفقده قائلا: ما يميز عضو المجلس الاستشاري الراحل الذي فقده مجتمعه وفقدناه أنه كان من اصحاب الايدي البيضاء الذين يعملون بصمت وتفاني ولا تظهر أعمالهم الخيرية إلا بعد وفاتهم، مضيا ذلك ما حدث فعلاً مما رأيناه منه طيلة وجوده معنا الى جانب العديد من الرسائل والمكالمات التي وردت الينا حول عطاءاته وخدماته النبيلة كالمساعدات المالية والعينية وقضاء حوائج بعض المحتاجين. كما كان داعما ومساندا للجمعية بالرأي السديد ولاقتراحات البناءة، وكان ايضا دائم الابتسامة والتواضع".

وفي مقالته بعنوان ”أخي وصديقي ستبقى في القلوب“ نعى الكاتب أحمد منصور الخرمدي صديقه الراحل بالقول: حين ترحل الأحبة تصاب القلوب باضطراب شديد ما بين حزن وألم وبكاء. قلوبنا اليوم تنعى فراقك يا أخي أبا حسين، فقدناك بعد أن فاضت روحك الطاهرة مع ساعات الفجر في أيام الحج الأعظم، مع التكبير والنداء الرباني”لبيك اللهم لبيك“فلبت روحك النداء، مضيفا سيكون لفراقك ايها الأخ العزيز وحشة وحزن شديد، وستبقى ذكراك العطرة تطوف بقلوبنا، ولن تتوقف، فدموعنا ومشاعرنا المفجوعة والحزينة تضمدها ذكراك الحسن وهي مصدر تنفيس وتهدئة لخواطرنا.

مؤكدا، لن ننسى أفضالك، ابتسامتك ودماثة أخلاقك، انسانيتك السمحة الحانية العطوفة مع الكبير والصغير ومواقفك الاجتماعية العالية وتلك الخصائص الفريدة التي سوف تكون منقوشة وشاهدة لما قدمت وقمت به من الأعمال الخيرة في حياتك، ومنها ما ورثته انت واخوتك من والدكم الوجيه الحاج «أبو علي» رحمه الله، ومن أهمها وأعظمها استمرار مجالس العزاء الحسينية وفطور شهر رمضان الكريم، وكذلك استمرار مجلسكم الأسبوعي المفتوح للجميع. لن ننسى اخوتك ومحتبك للجميع واحترامك للكبير والصغير ولكل انسان عرفك وجالسك وهي من الصفات الإنسانية النبيلة والخيرة التي ميزتك في حياتك".

ويشيد رئيس لجنة شؤون الموظفين والمرافق العامة وعضو مجلس إدارة جمعية تاروت الخيرية المهندس محمد النابود «أبو علي» بمزايا المرحوم المؤمن قائلا: كان من المساهمين الاساسيين في توفير علب ماء الشرب للمقبرة والمغتسل ولسنوات طويلة، كما كان من الداعمين لجميع انشطة الجمعية المتنوعة، وكذلك من المساهمين المهمين في مشروع مبنى الذكر الحكيم والمبنى الاداري".

ويعبر صديقه الكاتب عبد الرزاق الكوي في مقالته التأينية التي جاءت بعنوان ”أبا حسين ستبقى علياً“، يعبر عن حسرته الشديدة وبالغ ألمه لفقد الراحل قائلا: بقلوب اعتصرها الألم والحزن تلقينا نبأ وفاة الأخ الغالي الحاج أبو حسين، مضيفا أنه يوم حزين بل كالح السواد، مخاطبا اياه: لقد تعجلت الرحيل ونحن لا زلنا بحاجتك بيننا كأخ لم تلده أمك. مؤكدا ان للفقيد محبة خاصة في النفوس لدرجة أنه في كل فرصة تلتقيه تتمنى أخذه بالأحضان والقبلات، ويكون دائمًا هو السباق بفيض حنانه وطيب قلبه مع ابتسامة لم تفارقه أبدًا، حيث أحب الجميع بتواضعه وبشاشته فبادله الجميع بالحب وملك القلوب، وكان مثالا للحب ليس على نطاق العائلة بل لكل من عرفه، وهم كثيرون.

وفي معرض تعداد مآثره قال: كان يملك شخصية جاذبة وآسرة تجبرك على محبته واحترامه وتقديره، وحقا كان رسالة محبة ووئام واجتماع، وبهذا نهج مسيرة والده المرحوم الحاج أبو علي رحمه الله محبًا للفقراء اذ لا يكاد يخلوا مجلسهم في شهر رمضان من حضور فقير يجلس معهم كأحدهم، مضيفا طالما كان يشعرك الراحل بأخلاقه وتواضعه وحكمته وطلته وروحه المرحة، وسنفتقده في كل مناسباتنا الاجتماعية حيث كان حريصا بالمشاركة، إذ كنا نعتبر وجوده معنا أشبه بربان لسفينة العائلة، كشجرة مثمرة يستظل الجميع بظلالها ويأكل الجميع من ثمارها، وكان الله في عون ذويه ومحبيه على عظم هذا المصاب، والفراغ الذي لا يسده غيره.

ويختم الكوي مقالته بقوله: من يجلس معك لا يمل مجلسك، ولا زلنا صغارا بوجودك الكبير، ولم أسمع في حياتي أنك اختلفت مع أحد، بل أغبطك لكثرة محبيك ليس من العائلة فقط بل كل من تربطك معهم علاقة. ذهب من حياتنا أعزاء علينا وتألمنا لفقدهم والله أعلم يا أبا حسين أنت من الأعزاء وسيبقى لفقدك جرحًا على امتداد الأيام المتبقية من حياتنا.. ندعو لك أن تنام قرير العين فالعيون بعدك دامعة، نم يا طيب القلب، فالقلوب بعدك مكسورة، ونعزي بفقدك أنفسنا وتاروت كلها تعزيك كأن من أبنائها البررة. لقد قلتها في حضرتك إني أحبك وأقولها الآن أني سأبقى أحبك ما حييت، نحتسبك عند الله في جنان الخلد وستبقى القلوب موجعة بفراقك لكنها تدعوا لك بالرحمة والمغفرة".

مضافا الى ما قيل عن المرحوم الراحل من مزايا وخصال، سمعت شخصيا ومن أكثر من طرف قصصا وحكايا تؤكد بأن الراحل كان يمتاز ايضا بحسن التخطيط والتصرف في المواقف الصعبة والحكمة والحلم في معالجة القضايا والاشكالات، كما كان مهتما بالإصلاح بين الناس، وهي ميزات اساسية للقادة الاجتماعيين المصلحين المميزين، والذين يعول عليهم دائما في مسيرة الاصلاح والتغيير الاجتماعي. وفي حديث عابر، قبل ايام وجيزة، مع ابن المرحوم البكر الشاب «حسين» حفظه الله، بغرض التعزية والمواساة، تحدث معي بعفوية وبحسرة لا تخلو من الألم عن والده قائلا: ظننت اني اعرف ابي جيدا طوال هذه السنين رغم انه كان يعاملني كصديق وليس كأبن، وكنت مطلعا على الكثير من اسراره الخاصة، الا انني اكتشفت فور وفاته، من خلال أحاديث الناس سيما اصدقائه المقريين، بأن والدي أكبر مما تصورت في العطاء والبذل والايثار وحسن الاخلاق، مضيفا: كنت اسأل الوالد دائما أحيانا عن بعض الأمور والقضايا الخاصة به، فكان يقول لي: ستعرف لاحقا يا أبني ان شاء الله، وبالفعل اكتشفت - بعد فوات الأون - ان العديد من اعمال الوالد الخيرية كان يؤديها بصمت دائما".

لقد فقدت جزيرة تاروت رجلا مؤمنا معطاءا نبيلا خلوقا وكفؤا. كان يتمتع بحس قيادي خلاق ومزايا أخرى لازالت مجهولة لدى الكثيرين، كما أسلف أبنه، وكان المجتمع بأمس الحاجة الى وجوده ونهجه وطاقاته وجهوده الخيرية. ولكن ما عسانا أن نقول في ارادة الله التي شاءت أن يكون الى جواره وفي ظل رحمته الواسعة، فرحمك الله يا ابا حسين وألهم ذويك ومحبيك الصبر والسلوان، وإنا لله وانا اليه راجعون.

*باحث في علم الاجتماع

* تم نشر المقال في مجلة العطاء التابعة لجمعية تاروت الخيرية عدد 8-

باحث في علم الاجتماع السياسي