آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 6:58 ص

لا يَكن نصحك مُنَفِّرا..

عبدالله الحجي *

تناولنا في المقالة السابقة بعنوان «رسالة الحقوق.. والنصيحة» أهمية النصيحة وحق المستنصح وحق الناصح كما ورد في رسالة الحقوق للإمام السجاد ، وما يحدث من حالة النفور من الناصح وعدم محبته وتقبل نصيحته، وتوقفنا على أنه لا يمكن تحميل المنصوح كامل المسؤولية واللوم لعدم تقبل النصيحة، وأنَّ الناصح قد يتحمل جزءا كبيرا في الوصول لمثل هذه الحالة.

تقديم النصيحة ليس أمرا سهلا، ويعتمد على المواقف، ونوعية النصيحة، والناصح والمنصوح ومدى العلاقة بينهما، وهل النصيحة عامة أو خاصة لشخص بعينه. ولكي لا يُلقَى باللوم على المنصوح فقط في عدم تقبل النصيحة يحتاج الناصح مراعاة بعض الأمور التي تساعده لأن تكون نصيحته أكثر تقبلاً. من أهم الأمور وضوح الهدف من النصيحة إن كانت خالصة لوجه الله تعالى وابتغاء الإصلاح والمصلحة العامة ومنها مصلحة المنصوح أم أن الهدف هو مصلحة الناصح الشخصية وحب الذات، وإبراز المواهب والقدرات، ورغبة في التميز على الغير، والتسلط والزعامة والاستعلاء والشهرة. وقد ذكر رسول الله ﷺ أربع علامات للناصح حيث قال: ”أما علامة الناصح فأربعة: يقضي بالحق، ويعطي الحق من نفسه، ويرضى للناس ما يرضاه لنفسه، ولا يعتدي على أحد.“ [1] 

وليكون الناصح مقبولا يحتاج إلى التحلي باللين والرفق والتواضع وأن تكون نصيحته بالحكمة والكلمة الطيبة مبتعدا عن الشعور بالعظمة والكبرياء والغرور. وأن لا يكون همه كشف وتعرية الطرف الآخر وإظهار عيوبه وإحراجه والتشهير به وتأليب الرأي العام عليه، فكل إنسان له كرامته وعزة نفسه ولن يسمح لأي كان بإهانته والنيل منه وسيدافع مستميتا للحفاظ على كرامته ويستحيل أن يتقبل أي نصيحة في هذه الحالة.

ومن الأمور المهمة إن كانت النصيحة لفئة من الناس أن تُطرح بدون التطرق للأسماء، وإن كانت خاصة لشخص بعينه فمن أكبر الأخطاء التي يتجاهلها البعض بأن تكون على الملأ فذلك يجعل المنصوح يشعر بالحرج والإساءة، وستكون لديه ردة فعل عكسية محاولا رد اعتباره وكرامته، وسيزيد من عناده وعدم الخضوع والانصياع، بل سيبذل قصارى جهده ليثبت بأنه على صواب. لذلك من الواجب أن يتم توجيه النصيحة على انفراد سواء كان وجها لوجه أو على الخاص عبر وسائل التواصل الاجتماعي. قال الإمام علي : ”من وعظ أخاه سرا فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه.“ [2]  وقال : ”نصحك بين الملأ تقريع.“ [3] 

وقال الشافعي:

تَعَمَّدني بِنُصحِكَ في اِنفِرادي *** وَجَنِّبني النَصيحَةَ في الجَماعَه

فَإِنَّ النُصحَ بَينَ الناسِ نَوعٌ *** مِنَ التَوبيخِ لا أَرضى اِستِماعَه

وَإِن خالَفتَني وَعَصيتَ قَولي *** فَلا تَجزَع إِذا لَم تُعطَ طاعَه

كما ينبغي أن يكون الناصح أهلا للنصيحة وقدوة للمنصوح بحيث لا ينصح بأمر وهو يخالفه، وأن يختار الوقت المناسب بحيث لايكون المنصوح مشغولا بأمور أخرى، ويراعي نفسيته ومدى تقبلها لقبول النصيحة فإن كان في حالة غضب وانفعال فمن الأفضل التريث لوقت يكون فيه أحسن حالا للاستماع والتقبل.

ومن الحقوق والآداب التي يحتاج الناصح الالتزام بها العقلانية وعدم التهور وعدم المبالغة، والابتعاد عن الشخصنة وعدم توجيه النصيحة بشكل مباشر بأسلوب الأمر والنهي والزجر بل لا بد من اختيار الأسلوب الأمثل كهيئة الاستفهام مثلا «ماذا لو فعلت كذا وكذا؟»، أو طرح الإيجابيات والسلبيات لعدد من الخيارات وإتاحة مساحة للمنصوح للتقييم والاختيار فذلك يجعله يشعر بالراحة بأنه صاحب القرار والاختيار وغير مفروض عليه فرضا. وأحيانا يكون أسلوب التطبيق العملي وتمثيل دور القدوة أمام المنصوح أبلغ وأفضل من ألف كلمة ويكون له تأثير إيجابي كبير في تغيير بعض السلوكيات. فقد تكون مع ابنك ويواجهك موقف ما وترغب في توجيه نصيحة لابنك للقيام بإجراء معين فيمكنك القيام به أنت شخصيا وهو ينظر إليك بدون أن تتكلم فهنا تكون قد وجهت له ماتريد بشكل أقوى وبدون أي إحراج، وعندما يمر بذلك الموقف مرة أخرى لن ينسى تصرفك وسيحذو حذوك. وما أجمل الأسلوب الذي اتبعه الإمام الحسن والإمام الحسين «عليهما السلام» عندما شاهدا رجلا كبيرا لا يحسن وضوءه، فطلبا منه أن يحكم بينهما لمعرفة أيهما وضوؤه صحيح. فلما توضأ كل منهما قال كلاكما تحسنان الوضوء وأنا الذي لا أحسن الوضوء وقد تعلمتُ منكما.

ومن الأساليب التلميح بدون تصريح أو توجيه الخطاب إلى شخص آخر معروف بتقبله للنصيحة والقصد منها شخص آخر. تقول إحدى الأمهات عانيت كثيرا وكدت أخسر ابني في مرحلة المراهقة لعدم تقبله أي نصيحة وانقطعت خيوط التواصل معه. فما كان منها إلا أن انتهجت أسلوبا آخر وأخذت تحكي قصصا لابنها الصغير تناسب الابن المراهق عن الأخلاق الحسنة والتعامل مع الناس وكل مايحتاجه من دون أن تشعره بأن الحديث موجه إليه. تقول في بداية الأمر كان يغادر المكان لكي لا يسمع وبعد فترة صار يجلس ويستمع ولكنه يتظاهر بأنه مشغول بأشياء أخرى. استمرت على ذلك لفترة طويلة ولكنها لاحظت التغيير الإيجابي على سلوكه. وبعد عشر سنوات اعترف الابن الأكبر لأمه بالتأثير الكبير لتلك القصص على نفسه ومن شدة تأثيرها كان أحيانا يذهب إلى غرفته ويبكي عندما تضع يدها على الجرح.

الناصح لن يسلم من النقد ولن يكون الطريق معبدا أمامه ومفروشا بأجمل أنواع الورود التي يفوح منها أزكى الروائح بل لابد من وجود الشوك المؤذي والعقبات والتحديات التي يهون أمرها إذا كانت النصيحة في الله وخالصة لوجهه الكريم. وعلى الناصح أن يوازن الأمور ويقيِّم المصلحة من نصيحته، ويتحلى بالصبر والحلم وكظم الغيظ والحكمة لأنه قد يتعرض للإهانة والتهكم والسخرية وقد يكون منبوذا من قبل البعض.

[1] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ١ – الصفحة ١٢٠
[2] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٧٥ – الصفحة ٣٧٤
[3] عيون الحكم والمواعظ – علي بن محمد الليثي الواسطي – الصفحة ٤٩٧