آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

هلوسة مدمن

مريم آل صويلح

تسلل ضوء الشمس من بين شرائح الستار كلص محترف، رأيت بعضه يعبر وجهي وأفلت نفسه على وسادتي، وبعضه اختبأ تحت السرير، أما عن الجزء الفقير الذي خرج من تحت الباب فلا أعلم مصيره، والكثير منه تآكل، تآكل مثلي أنا، مثل طفولتي ومراهقتي وشبابي، لم أقاوم أصبوحات ديسمبر، على الرغم من وجودي في المستشفى، نهضت منتشيا حامل رجفة جسدي المستديمة، والاعوجاج المقيت في خطواتي، وقفت عند النافدة التي تطل على عالم من الفوضى الرتيبة، فتحتها فارتعبت مسامات جلدي من النسمات الباردة التي تأرجحت على شعيراتها... ديسمبر وحكايته الأولى.. قلتها بهمس.

سماءه المزرقة وبعثرت السحب التي غطى بعضها عين الشمس، خيل لي بأنها تشبه الهيئات أقصد بأن تلك البعيدة «كبعدي عن روحي» تشبه الكف بأصابع أربعة يبدو أن الخامس فقد من لسعة الضوء، وهذه القريبة «كقرب الموت مني» تشبه بقعة ماء مسكوبة من إناء منكسر، أظن أن أحدهم كان غاضبا «مثلي» فأفلته «كما أفلت أنا نفسي» ليشفي غليله، إحداها يشبه وجه الأرنب بدون شنصيه، هل يولد الأرنب بلا أسنان مثلنا؟ وهذه الغيمة تختلف عن الباقيات، داكنة ومرهقة وكأنها مشت طويلا على أمل الوصول، هكذا نحن، نولد مصابين بداء الحماسة، أولا تتمنى، وتعتقد بأن ما تتمناه سهل ولا يحتاج منك إلى عدو أو قفز، تقطع بداية الطريق بزهو، وأول خيبة تبدو لك كفم التمساح، وتظن بأنها الوحيدة والكبيرة، تخرج منها وقد فقدت جزء منك، ولا أدري... إن كان هو الجزء الأقرب إلى الطفولة؟، فقد تكون فقدت أروع ما فيك، تمشي بأقل من زهوك الأول، وقد لا تشعر بفم التمساح الذي ظل يراقبك، يتغذى على خيبتك الثانية والثالثة و.....، وفي كل سقوط ترى حلقه أكثر اتساعا ويراك أكثر ضآلة وتقزما، وإذا ما أمعنت النظر تكتشف بأنه تحول إلى تنين يزفرك لهبا، تركض خائفا وعيناك خلفك، لا أدري أخائف على ما تبقى منك أو على ما تبقى من أحلامك؟ ولا تنتبه بان العمر مر مسرعا حتى تمنح نفسك بعض الحنين إليك على سبيل الصدقة، فتدرك متأخرا بأنك بدوت خاليا منك وشخصا غريبا لا تود التعرف عليه، تماما مثل تلك الغيمة الشامخة والحزينة معا، تنتظرنا أن نمطر غيثا ولا نمطر الا رمادا من رمادنا، أدرت رأسي المثقل بالتواريخ والأحداث حين سمعت أقدام الجهاز الذي تسيره الممرضة يعرج،

انفجرت ضاحكا وأنا أضع يدي على قلبي المريض: إنه يعرج.. جهازكم يعرج.. مصاب بالعرج.. مثلي، مثل حظي، مثل حياتي، وبدأت أسعل حتى ضاقت مني الأنفاس، وسقطت أرضا ولم أعد أرى شيئا.. فقط كانت أصوات الأقدام كقرع الطبول تتجه نحوي وتدريجيا غابت الأصوات وغبت انا.

رأيتني في داخلي مفتت، اتوسد الظلام ويتلحف بي، افر منه واصطدم به، يا إله السماء.. ما كل هذا العجز؟ كيف تعاطيت معه دائما؟ كيف غصت في لزوجته؟ صرت أركض وانا أرى أجزائي تتفسخ عني، قدماي، يداي، مفاصلي، عظامي، كل شيء كان يهوي مني، سقط قلبي الملطخ بزرقة الموت وسقطتُ، ركلتني قدمي الملقاة في بطني فتقيأت، تقيأتني أنا.

فتحت عيني ورفعت النصف الأمامي من جسمي وأنا ألهث وجبيني يتندى عرقا، وبقع من الماء تحتي، اندسست تحت الأغطية وأنا أضم ركبتي لصدري لعل خوفي ينكمش ويتلاشى، أتلفت هنا وهناك، لا شيء من ظلامي الداخلي خرج معي، سوى القيء الأحمر الذي تقيئته فوق الغطاء، حدقت في حمرته وطرأ في خاطري بأنه أنا، شعرت بالفزع واغرورقت عيناي دمعا، يا إله الكون ما كل هذا العطب في روحي؟ تعبت من الكوابيس، من القيء الأحمر، من التعفن، من سعالي الحامض، من صراخي الداخلي الذي يقطعني، يذيبني، رمقت اشعة الشمس الباهتة التي بدأت تنسحب حتى بدا المكان فارغا يشحذ الضوء،

_هل تريد أن أشعل الأنوار؟

انتفض قلبي من صوت الممرضة البارد التي لم انتبه لدخولها، أجبتها من فوري بدون تفكير:

_لا لا لا

كان حلقي يابسا وبصعوبة استللت صوتي من حنجرتي

_ماء، اريد الماء.

ناولتني كأس الماء بابتسامة حنونة، قفز إلى ذاكرتي وجه طليقتي،

خرجت الكلمات من فمي بدون أن أشعر، مناولا إياها الكأس مبتسما بلهفة كسيرة، ضالة وميتة:

_كنت في ديسمبر قبل خمسة عشر سنة، لم أكن أنا...

وفي حين أن الكلمات تاهت وكأن لساني ربطها من أقدامها سارت صوب الباب وهي تشي بشيء من التبجح المغرور:

_نحن نستطيع إيذاء أنفسنا بشكل لا يصدق.

حاولت أن أعض على أي جزء من أي كلمة لأرد عليها فقلت بتلعثم يضرب قلبي بخيزرانة:

_لست أنا.. لم أكن أنا..

توارت الممرضة عن ناظري، وظللت أحدق فاتحا فمي مرددا:

_لست أنا.. ديسمبر.. أنا أحمق.

غصت بين الأغطية محاولا أن أغرقني، كنت بحاجة إلى أن أغرق في الأزمنة، أن أفقد علاقتي بالوقت، بالساعة، بالدواء، بديسمبر، بوجه طليقتي وابني، بكل الأسباب والأشخاص الذين جردوني مني، بكل أنواع ال... التي تعاطيتها، أن أفقد علاقتي بتاريخي، بشكلي، بشفتي الدسمة ووجهي الملطخ بالحبوب، بشامتي التي تعلو حاجبي الأيسر، بأنفي المدبب، بجسمي، بلوني، بكل تفاصيلي، حتى بصوتي، قررت أن لا أستنجد بحنجرتي ولا أقترض منها حرفا، قررت أن أتمدد دونما رغبة في فعل شيء، أن أنظر في اللا شيء، أن أكون لا شيء، وأنا بطول حياتي لم أكن شيئا، حتى أن اللا شيء كان مفجوعا، كنت بحاجة إلى أن أغادرني، رفعت الوسادة ووضعتها فوق وجهي، عصرتني بها، فطمت شهيقي وزفيري مني، دقيقة... دقيقتان..سمعت صوت ابني الذي لم أره قرابة عشر سنوات: بابا... أنفك ينزف.

وبشكل لا شعوري رفعت الوسادة ومسحت أنفي بكمي، وأنا أبحث عن ابني، فهمت أنى أتخيل، وضعتها ثانية وأنا أكثر إصرارا أن أحررني، مرت الدقيقة، الدقيقتان، جاءني صوت طليقتي:

_أسنانك تسقط.

رفعت نفسي بفزع أتأكد من وجود أسناني، إنها موجودة ومصدر الصوت عبارة عن شبح يطاردني منذ سنوات، لا... لا وجود للأشباح، أنه وهم، أنا واهم، واله، هائم، تائه، جبان، أنا غير موجود، تقيئتني مرارا، انزلق في خارجي على هيئة دماء فموية حامضة ونتنة في كل يوم، وبشكل موحش أراني بعد برهة أتقلب وأرتجف على سرير في غرفة العزل، إنه أنا، أعود في كل انطفاء، وفي كل عودة أكون أكثر ترهلا وأكثر زوالا، ابتسمت..

قهقهت، ضحكت من أعماق ألمي، بكيت، ووصلت إلى حد النشيج، صرخت ورميتني أرضا، كنت أريد أن أطفر مني وأقشع وجودي، ركلت الجهاز الاعرج واسقطت مني أنابيب الأوكسجين والدواء، سعلت، وتقيئتني كثيرا بدون رحمة مني، مصرا على أن ألفظني وأتحرر، غاب كل شيء، غاب ديسمبر وغبت أنا.

النهاية