آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 2:34 ص

وللأشياء لغاتها

الدكتور أحمد فتح الله *

اللغة، في أقدم تعريف لها، وأطولهم زمنًا، أنها أداة تعبير الإنسان عن ذاته، أفكاره، مشاعره ورغباته. وبهذا التعريف الساذج، تصبح اللغة وسيلة تواصل فقط، مثل كل الرموز والصور، وإشارات المرور في شوارع العالم. بعضها يكون مجتمعيًّا «محليًّا» وبعضها يكسر حواجز الخصوصية فيصبح أكثر انتشارًا «فهمًا واستعمالًا»، كحال نظام السير العالمي، إلا في قليلٍ من بعض الدول، الثلاثي الألوان «الأخضر والأصفر والأحمر».

فهناك لغة الإشارة، التي يستخدمها المحرومون من النطق أو السمع أو كليهما، وكلغة الإشارة، المقابلة للرطانة «الرطنة» في لغة البشر، أي الإشارات التي يتبادلها جماعة مهنة معينة، كالمضاربين في أسواق البورصة أو البترول، في مدينة نيويورك وغيرها، ومدربي كرة القدم، مع لاعبيهم أو مع بعضهم، وهكذا. ومثلها لغة الجسد، أي الحالة التعبيرية التي يرسلها عضو من الجسد للمتلقي الذي أمامه أثناء التحادث أو الحوار، وتكون مدويَّة أيضًا لغيرهم في لحظتها أو حين تنتقل إلى آخرين ليسوا في مكان أو زمان حدوثها، عن طريق التصوير ثم تداولها عن طريق وسائل الإعلام وتطبيقات التواصل المعاصرة المختلفة؛ ”اليوتيوب“ و”الواتساب“ و”توتر“ و”الفيسبوك“، وغير ذلك. ومعظمنا شاهد حركة يد ”ملانيا ترمب“، زوج رئيس أمريكا ”دونلاد ترامب“، حين مدَّ يده اليسرى وهما يمشيان ليأخذ يدها اليمنى، اشارة لمعنىً هو يريد أن يرسله للعالم عن تواجدها معه، لكن حركة يدها الصامتة كانت مدوية كانفجار صاروخ ”توماهوك“ «أمريكي».

ومن قبيل كل ما ذكر، تلفت انتباهي، ”لغاتٌ“ لجمالها وعمق رسائلها. والترتيب التالي في ذكرها لا يعكس درجات الأهمية والجمال عندي، إنما حسب ترتيب حروف المعاجم العربية؛ أي ألفبائيًّا، حتى لا أقع في متاهة الترتيب العاطفي؛ غير الموضوعي، الذي يتأثر بالمزاج والحالة النفسية ساعة الاختيار.

لغة الابتسامة

أكثر مفردات الجسد وضوحًا وفهمًا وتأثيرًا في تحطيم الحواجز، وتقريب المسافات، بل وأقلها جهدًا وتكلفةً. أمَّا الكاذبةُ منها تخرج ذابلة ميتة.

لغة البحر

البحر له لغة هادرة بصمت طويل، فيه الصمت والانصات والسَّماع.

ثم يحضن هموم وأحزان محادثه ويغرقها في اعماقه، فلا يعلمها أحد، إذ تضيع منه هناك.

وحين تتحرك شفاهه بتموجات في أبهة وجمال يفهمها المحب الحزين والشاكي المتألم، فيبلل ردادها يبس عروقه التي جفت من البكاء أو حرارة الشوق.

ولكن حين يغضب تثور أمواجه في لغة ليست كاللغات....سلوا عنها من بقيَّ من أجدادنا الذين عاشروه للقمة عيشهم.

لغة الصمت

”الصمت متعة في زمن الثرثرة“

الصمت له وجهان: خلاف الكلام «النطق»، فهذا له عضو واحد «الْفَمْ»، ويقابله الاستماع وله عضوان «أذنان» لأهميته، كي نستمع ضِعَفَ ما نتكلم، واثناء الاستماع يتوقف النطق فيكون الصمت.

والوجه الآخر: السكوت لغة، لذا قيل: ”سكوتها رضاها“، والسكوت هو صمت، لكن قد يكون رفضًا أو تَمَرُّدًا أو استخفافًا. فما أحوجنا لمعرفة ”معاني“ لغة الصمت الغنية. وقد تكون في الصمت بلاغة، وقد يكون للصمت موسيقى «كما يقول عمر بهاء الأميري»، على الأقل أن نستمع إلى ”موسيقى الصمت“،

يقول الأميري في إحدى مقطوعاته:

موسيقى الصمت وقد أغمضتُ.... وعقلي في قلبي انصهرا

ألحانٌ دَقَّت رقّتُها.... عن سَمْعٍ قد ألف الوَتَرا

لغة الطفولة

الاْطفال بسمة الحياة ومفردة البراءة والصفاء. ففيهم الطهر والنقاء قبل أن تكتمل عندهم وفيهم لغة الكبار. ليس فقط ليت الكبار يفهموا لغة الأطفال، بل ليتهم يتعلموها، ليس فقط لجمالها وعذوبتها بل لعالميتها، وصدقها.

لغة العين

أقوى لغة بين المحبين، حين لا ينطق الصمت «انظر لغة الصمت، أعلاه». لغةٌ يحتاج أن يتقنها المتحاورون؛ سل مَنْ يتهاتفون بلا رؤية «صوت بلا صورة» عن ضياعهم في الحديث -قبل ”الفيديو شات“، ”وفيستايم“-، ومَنْ يتحاورون في الظلام، سواءً كان هذا الظلام حسيًّا أو معنويًّا.

لغة القلب

”أنا قلبٌ خافق أيقظ في الناس الشعورَا“ «عمر بهاء الأميري»

القلب يهمس وهو ينبض، ونبضات القلب ”كلمات“، وأجمل الكلام وأصدقه ما يقوله القلب، لا اللسان. فلنستمع لـ ”همس القلب“، لذا قيل: ”استفتي قلبك“،

وكم منَّا من قال في كذا أمر: ”قلبي لا يطاوعني“، وقيل أيضًا: ”أنا قلبي دليلي“

فلا تجبروه على شيء. اسمعوا لغته وأفهموها. وتواصلوا مع الناس بها. قال علي ابن أبي طالب : ”خالط المؤمن بقلبك، وخالط الفاجر بخلقك“.

لغة الهدوء

قال أحدهم: ”الهدوء أروع الصفات التي أعشقها...

لا أعلم ما السبب... ولكن ربما هي لغة بداخلي.“

وقال آخر: ”الهدوءُ لُغَةُ الأذكياءْ“.

الهدوء حالة نفسية رائعة تختزل الثقة في الذات والثبات، وإن هي استعارت بعض مفردات الرقة اكتمل فيها جزء مهم من معجم الإنسان. وحين نجمع بين الهدوء والصمت، نقول كما قال محمود درويش:

في الهدوء نعيم... وفي الصمت حياة

وما بين الإثنين تفاصيلٌ... لا أحدٌ يدركها

لغة الورد

لغة، مثل صاحبتها، رقيقة وعذبة؛ وردة واحدة تقول ما يعجز عنه لغوي بليغ في عشرات وعشرات الكلمات، وإن زاد الورد عددًا لا تتغير اللغة، ما يتغير هو «جمال» المنظر، واللغة تحملها أول وردة، أو أي وردة، تقع عليها عَيْنُ المتلقي. لهذا تعشق النساء الورد، لأن الرجال لا يحسنون الكلام معهن.

وفي الختام، هناك لغات أشياء كثيرة... فيها تنوعات من مفردات الحياة ومشتركات الإنسانية،

نحن جَزْمًا لا نعرفها، فهي عندنا ”لغات أجنبية“؛ لا تسويق لتعلمها، قد تجبرنا لحظة ما الحاجة لها ونحن لا نجيدها. فلننتبه لِكُلِّ شيء حولنا، فهو حتمًا يقول لنا شيئًا ما، وبلغته الخاصة به. وقد قال خالق الأشياء والعالم بها: ﴿وإن مِنْ شيء إلا يُسَبِّح بحمده، ولكن لا تفقهون تَسْبِيحَهُم «الإسراء: 44».

تاروت - القطيف