آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 11:30 ص

الانقلاب الكامل

محمد أحمد التاروتي *

مراجعة القناعات ظاهرة إيجابية ومطلوبة، بهدف الوقوف على الثغرات، والعمل على معالجتها بطريقة ”مناسبة“، وكذلك التعاطي مع المستجدات على الساحة الاجتماعية، بأسلوب مختلف، فالكثير من القناعات مرتبطة بمسار زمني أحيانا، مما يستدعي مراجعتها بشكل مستمر لمواكبة التطور، والحرص على بناء الخطاب، بما ينسجم مع التطورات على الساحة الاجتماعية، ”ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم،“ و”فحاسبوا أنفسكم قبل ان تحاسبوا“ و”يا أبا ذر، حاسب نفسك قبل أن تحاسب فهو أهون لحسابها غداً، وزن نفسك قبل أن توزن“.

عملية الانتقال من الضفة للاخرى، فيما يتعلق بالقناعات، والمرتكزات الثقافية، مسألة حيوية وأساسية بهدف التفاعل مع التطورات، فضلا عن كونها ترجمة حقيقية للقدرة على التنازل عن بعض القناعات، بمجرد اكتشاف انتهاء صلاحيتها، وعدم قدرتها على مواكبة المستجدات على الساحة الاجتماعية، وبالتالي فان المراجعة الذاتية ليست عيبا وانما قيمة أخلاقية عالية بالدرجة الأولى، فهي تنطلق من الاعتراف بالخطأ ”الاعتراف بالخطأ فضيلة“، لاسيما وان الخطاب المتشنج او الاقصائي يحدث انشقاقات كبيرة في الجدار الاجتماعي، مما يستدعي محاولة استبداله بخطاب اكثر عقلانية، واكثر اعتدالا، بغرض احداث مصالحة مع الذات أولا، وتغليب الخطاب الجامع باعتباره الأكثر قدرة على التقبل في البيئة الاجتماعية ثانيا.

المشكلة تكمن في الانقلاب المفاجئ وغير المتوازن لدى البعض، بحيث تظهر على جميع المواقف بصورة صادمة، مما يحدث ارباكا كبيرا، وعدم قدرة على استيعاب تلك التحولات الكاملة، والدوران الشامل، خصوصا وان الكثير من المبادئ الراسخة تتطلب الثبات عليها، وعدم التنازل عنها، باعتبارها جزء من التركيبة الثقافية لدى البيئة الاجتماعية، وبالتالي فان محاولة الظهور بمظهر ”التجديد“، سيجد معارضة قوية لدى الكثير من القواعد الشعبية، لاسيما وان عملية الانقلاب الكاملة لا تصب في خانة مسايرة التطورات الاجتماعية، بقدر ما تستهدف احداث مفاهيم وقواعد أخلاقية خاطئة، الامر الذي يفسر حالة النفور الكبيرة بمجرد الإفصاح، عن تلك القناعات غير المتوقعة.

التحولات الصادمة والتنازل عن المبادئ الأخلاقية الراسخة، مرتبطة أحيانا بالمصالح الشخصية، ومحاولة تحقيق مكاسب على حساب البيئة الاجتماعية، خصوصا وان الطموحات الخاصة تدفع باتجاه اظهار المواقف الصادمة، وغير المستساغة، بهدف إيصال رسائل عديدة لاطراف ”متنفذة“ من اجل نيل الرضا، والحصول على بعض المكاسب الاجتماعية، مما يدفع لتجديد الخطاب المتوارث بطريقة ”فجة“ وممقوتة، لدى الكثير من القواعد الاجتماعية، لاسيما وان الخطاب الجديد لا يمت للمفاهيم الأخلاقية بصلة، مما يشكل بداية لتوسيع رقعة النفور لدى شريحة واسعة، بمعنى اخر، فان العمل على مجاراة المستجدات الاجتماعية، ليس مدعاة للتنازل على المبادئ الراسخة، لاسيما وان هناك الكثير من الطرق للتفاعل مع تلك التطورات، بما يحافظ على الكثير من القناعات والمرتكزات الثابتة.

الانقلاب الشامل في الخطاب الثقافي يجد مبررات في أحيان كثيرة، ولكنه غير قابل للمرور بمجرد ارتباطه بالمبادئ الراسخة، في الثقافة الاجتماعية السائدة، مما يستدعي انتهاج الحيطة والحذر في التعامل مع المبادئ الأخلاقية الحاكمة في المجتمع، باعتبارها ”مقدسات“ ينبغي الابتعاد عن التلاعب فيها، وبالتالي فان المرء قادر على إعادة رسم قناعاته الخاصة، باعتبارها اجتهادات قابلة للتجدد على الدوام، بينما سيكون الوضع اكثر صعوبة في تحقيق ”الأغراض“، من وراء التلاعب بالمشاعر الاجتماعي بدعوى ”التجديد“، وإعادة تشكيل الخطاب الجمعي، كونها خارطة اطار ”الحقوق الخاصة“، فالقواعد الأخلاقية عملية جمعية، وليست ممارسات فردية على الاطلاق.

المراهنة على تحقيق اختراقات حقيقية في الوعي الاجتماعي، ليست مضمونة، نظرا للبون الشاسع في وجهات النظر، فيما يتعلق بمجموعة المبادئ الحاكمة، لاسيما وان وقع مفاجئة الانقلاب الكامل ثقيلا على الكثير من الشرائح الاجتماعية، مما يحدث حالة من المقاومة والعمل على رفض الخطاب الجديد، باعتباره مصدر ازعاج ومقدمة للدخول في ”المحرمات“، وتجاوز الخطوط الأخلاقية الحمراء، مما يدفع لانشاء ”خندق“ ثقافي للوقوف في وجه تلك المبادئ الطارئة، وغير المنسجمة مع الموروث الثقافي السائد في الساحة الاجتماعية.

كاتب صحفي