آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

وداعا أسطورة كرة القدم «1»

عبد العظيم شلي

ليلة البارحة كنت خارجا من مكتبة الصفار وفي يدي كتاب صحي مترجم بعنوان ”5 خطوات لكشف ومعالجة النوبة القلبية“ للدكتورة الهندية ”انجالي أرورا“، صعدت للسيارة وفي بالي عناوين الكتاب الفرعية ”هل كنت تهتم بقلبك؟، تعرف قلبك، كيف تعالج نوبة قلبية..“ وإذا بابنتي تبلغني بالخبر

”مات ماردونا“ وكأني لم استوعب ما قالت مبديا لها دهشتي، وكررت العبارة ثانية على مسمعي، قلت لها يمكن إشاعة فقد خضع لعملية جراحية في الدماغ وتكللت بالنجاح وخرج من المستشفى قبل أسبوعين وهو يمر بفترة نقاهة في منزله، قالت كل التويتر ضاج بالخبر، وحين وصلت البيت فتحت جوالي وإذا بكم هائل من رسائل الأصحاب والقرويات المتنوعة تتناقل خبر الوفاة، وفي الحال تنقلت بين القنوات الإخبارية وإذا بقناة فرانس 24 تنقل حوارا مباشرا مع بعض الوجوه الرياضية، ومكتوب في أسفل الشاشة، عاجل: وفاة أسطورة كرة القدم دييغو ماردونا، المراسلون يؤكدون بأن سبب الوفاة سكتة قلبية! يا إلهي اسمع الخبر وأقول يا لها من مفارقة غريبة وأمامي عنوان الكتاب الجديد المتعلق بصحة القلب!، تسمرت أمام الشاشة مشدودا لمشاهدة حوار مع الصحفي الرياضي ”وديع فيعاني“ يتحدث عن حياة ماردونا وأهم إنجازاته ومسيرته الكروية، اتاني ابني محمد وطلب مني أن اكتب موضوعا عن ماردونا ليس كلاعب فذ وشخصية استثنائية، فهذا الشيء يعرفه الجميع بل يريد مني أن استعرض مواقفي ومشاهدتي وذكرياتي عنه، فقلت له أحاول أن استجمع ماعلق في الذاكرة ولو على سبيل الدردشة مع إبراز صور من الماضي الخالي من المحطات الرياضية والسوشل ميديا. ماذا عساي أن أقول عن شخصية شغلت العالم بموهبته الفريدة وأسبغت عليه الألقاب تلو الألقاب، أسر العقول والقلوب، قلوب تنبض حبا مضاعفا ومتجددا له على مدى أجيال وأجيال، وحالات عشق لامتناهية لم يحظى بها من اللاعبين سواها، أسطورة كرة القدم في مشارق الأرض ومغاربها.

تلوذ بي الذكرى متدثرا بالأيام الخوالي مع أصوات هادرة تنبعث من التلفاز الملون، جماهير تردد «أرجنتينا أرجنتينا»، عيوننا ترقب الفريق ذو القمصان الطويلة الموشحة بخطوط الأزرق السماوي والأبيض والشورت الأسود. كنا جلوسا بأعمار مختلفة في صالة نادي الهدى بتاروت برفقة الأصحاب وأعضاء النادي نتابع بشغف المباراة الختامية لكأس العالم

1978 بين المنتخب الأرجنتيني والمنتخب الهولندي ذو اللون البرتقالي، مباراة مثيرة طال وقتها على مدار ساعتين الأنفاس، وأسفرت النتيجة لصالح الأرجنتين بنتيجة 3-1 بعد حسم جاء في الوقت الإضافي الثاني من عمر المباراة، رفع الكابتن باساريللا الكأس وطاف به أرجاء الملعب محمولا على الأعناق وشرائط الأوراق والقصاصات الصغيرة تغطي المضمار والمستطيل الأخضر، تحسب الأرضية كأنها مغطاة بالثلج، هوس رياضي مجنون وسلطة ديكتاتورية بالمرصاد ساهما في تحقيق النصر، سجل التاريخ بأن منتخب التانغو أحرز كأس العالم لأول مرة على أرضه وبين جماهيره، ليلتها لم تنام الأرجنتين، نسي الشعب فساد السلطة وبطشها الذي لم يرحم أحداً، كان النصر بمثابة مخدر للمواطنين تناسوا فيه كل آلامهم وأوجاعهم وحقوقهم المصادرة.

وبينما نحن خروجا من نادي الهدى في وقت متأخر من الليل كل منا يبدي التعليقات من دون تثاؤب مستعرضين سير البطولة ونتائجها ومستوقفين عند المهاجم الأرجنتيني ماريو كمبس ورفاقه اردلييس وفيلول ولوكيه أو فيديو وفالنسيا وغالفان وغيرهم، لاعبون فنانون لكن العنف متلازم كظلهم، وكيمبس ذو الشعر الطويل والقامة الفارعة أفضل لاعبا في البطولة وهدافها بعد تواطؤ منتخب البيرو الذي فتح شباكه على مصراعيها أمام الأرجنتين، بحصيلة نصف درزن أهداف من أجل ابعاد العدو اللدود منتخب البرازيل المتعادل معه بالنقاط، فارق الأهداف هو من مكن الارجنتين لبلوغ المباراة الختامية، وصوت خالد الحربان المتهكم على النتيجة ”أنا على أخي وأنا وأخي على ابن عمي وانا وابن عمي على الغريب“ قصده بأن كل دول أمريكا اللاتينية تتكلم الأسبانية باستثناء البرازيل تتكلم البرتغالية، فاللغة كأنها حالة مصاهرة ونسب،

وقيل حول هذا الأمر بأنه لايوجد دليل واضح على ذلك التواطؤ، لكن الغريب في الأمر بأن الشوط الأول كانت نتيجته واحد صفر للأرجنتين مما يعني خروجها نهائيا وعدم بلوغها النهائي فسوف يكون الطريق مفتوحا لصعود البرازيل لو ظلت النتيجة على حالها وبالحد الادنى حتى لو وصلت إلى 3 صفر، لكن حدثت المفاجأة المدوية التي لم يتوقعها أحد، في الشوط الثاني وخلال 20 دقيقة جاءت خمسة أهداف متتالية قبل أن تلفظ المباراة أنفاسها الأخيرة؟!

وعند عودة منتخب البيرو لبلادهم قذفوا بالحجارة في العاصمة ليما،

”كثرة الأهداف ملأت خبيثي النوايا بالشكوك وملأت بالشكوك طيبي النوايا“ كما يقول الروائي الاوروغواني ”إدواردو غاليانو“ وحسب ما قيل ”... مما جعل البطولة عفنة الرائحة“، لكن الرائحة تلاشت وفوضى الانقلاب العسكري تبدد وانتهاك حقوق الانسان تبخر في عالم النسيان عند مصافحة كأس الذهب، كرة القدم جنون وسحر لا يقاوم.

بعد أيام من تلك المباراة الختامية داع اسم الأرجنتين شعبيا على مستوى العالم وتداول على السنة الصغار والكبار وبين الأزقة وفرق الحواري وكل دروب ديرتنا وطلاب المدارس، وعلى أبواب صالة نادي الهدى اسمعنا الحاج علي العرادي رحمه الله، وهو ذو ذاكرة كروية زاخرة، ناقلا لنا على لسان مدرب الأرجنتين سيزار مينوتي ”عندي مفاجأة ستدهش العالم، موهبة كروية قادمة، لاعب صغير في السن اسمه ماردونا، خشيت أن أزج به في معمعة هذه البطولة الحساسة وهو قليل الخبرة“، انحفر هذا الاسم في ذاكرتي منذ تلك اللحظة، وبعدها عملت صحيفة حائطية رياضية مدرسية مع ابن عمتي نضال محمد حسين كلها صور احتفالية عن فرحة منتخب الأرجنتين مأخوذة من مجلة الصقر القطرية، حازت على أعجاب مربي الفصل أستاذنا عبد الرحيم قال لنا «ايه دا براڤو عليكم يا أولاد»، عندها تسلل في نفسي الميل الكروي لمنتخب الأرجنتين منذ ذلك الوقت وإلى اليوم ناقلا هذا الميل لاشعوريا الى اولادي.

بعد عام من تحقيق منتخب الارجنتين كأس أغلى البطولات العالمية طاف بأوروبا، متعادلا مع منتخب إيطاليا في روما 2-2 في مباراة ودية، وبعدها بأيام لعبت الأرجنتين مع منتخب هولندا في زيورخ بسويسرا بمناسبة مرور 76 عاما على تأسيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، ”الفيفا“، احتفال جمع بالمنتخبين اللذين بلغا المباراة النهائية في كأس العالم الأخيرة، عندها ظن الجميع بأن الطواحين سترد الصاع صاعين وخصوصا بأنها تقام بين الجماهير الأوربية المتحمسة للمنتخب الهولندي، لكن منتخب التانغو ظفر بالكأس بضربات الترجيح 8-7 كان ذلك عام 1979.

حينها أجمعت الصحف العالمية بأن منتخب الأرجنتين سيد العالم كرويا دون منازع " ولحق هذا التتويج، منتخب شباب الأرجنتين تحت سن العشرين، فوز أتى بواسطة اقدام الفتى الذهبي القادم بقوة بهدفه الحاسم ضد شباب منتخب الاتحاد السوفيتي في طوكيو، حينها انتبه العالم لبزوغ نجم ساحر اسمه ماردونا الذي سيرسم الفرحة على قلوب وعشاق كرة القدم في كل مكان.