آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

المتن والهامش.. صراعات وإزاحات

محمد الحرز * صحيفة اليوم

هنا لا يتعلق الأمر فقط بالكتب على وجه الخصوص، إنما يتصل منه أيضا في أحد وجوهه بالحياة الثقافية التي نعيشها من ألفها إلى يائها. الهامش في التقاليد الكتابية الموروثة لا يحتل سوى جزء بسيط من الورقة، إما على جوانبها، وهذا ما تزخر به كتب التراث، وإما في ذيل الصفحة كما تجري العادة في التقاليد المعاصرة.

لا يعتنى بالهامش، فهو مطرود ولا أهمية لما يمكن أن يقوله، أو يشير إليه مقارنة لما يقوله المتن أو يشير إليه. فهو مثار الاهتمام ومحط الأنظار. لذلك لا يخلو متن من نظارة في الحرف، وجمال في شكل الكلمة وتزويق في خطها.

لقد اعتنت الثقافة الإسلامية بالمتن أي اعتناء، وجعلت منه فنا قائما بذاته من فرط الهوس به، وهناك قصص كثيرة في التراث نقف من خلالها على صور متعددة على مثل هذا الاعتناء. جاء في كتاب الحكمة العربية للدكتور محمد الشيخ نقلا عن كتاب «رياض العلماء وحياض الفضلاء لعبدالله الأفندي أن أحد الكتاب» اسمه فرج الله بن درويش ألف كتابا سماه تذكرة العنوان، ما كان همه مما ألف مضمون الكتاب، وإنما شكله. إذ تأنق فيه بأبدع تأنق يكون، فأتت كتابته عجيبة «بعض ألفاظها بالسواد، وبعضها بالحمرة، تقرأ طولا وعرضا. فالمجموع علم، وكل سطر من الحمرة علم في النحو والمنطق والعروض».

بيد أن العناية بالهامش لم تغب تماما عن الثقافة العربية الإسلامية. لكن المشكلة تكمن ليس في التأنق الجمالي للحرف أو في شكله، وإنما في المساحة المتروكة له في الورقة، ومن يطلع منكم على كتب المخطوطات في التراث الإسلامي أو المحققة والمعاد طباعتها يرى التداخل الكبير بين كل حرف وآخر حتى لا يكاد الناظر يبصر سوى خطوط من السواد متداخلة بعضها ببعض. ربما قارئ من العصور القديمة، لا يجد عناء كبيرا في التواصل مع هذا الأسلوب الكتابي في الهامش، وبالتالي ليس ثمة مشكلة.

لكن ماذا عن القراء المعاصرين؟

في العصور اللاحقة على هذا التقليد برز أسلوب «قول على قول» حيث دخلنا في لعبة التحولات الكتابية، فأصبح المتن هامشا والهامش متنا. ولا أريد أثقل القارئ بفكرة هذا التحول بأمثلة من التراث، فالأمثلة كثيرة.

لكن أكتفي بالإشارة إلى عالمين مشهورين المحدث والمؤرخ الخطيب البغدادي «392 هـ - 463 هـ » والإمام الحافظ ابن عساكر «499 هـ - 571 هـ » الأول في كتابه «تاريخ بغداد» والآخر في كتابه «تاريخ دمشق». كلا الكتابين كان مشروع حياة مثلما نقول في لغتنا المعاصرة، استغرق تأليفهما حياة كاملة، الأول اشتمل على أربعة عشر مجلدا والثاني ثمانين مجلدا. اهتما بالمحدثين في تراجمهما، وقد تأثر ابن عساكر بابن الخطيب في كتابة تاريخه وبأسلوبه في تنظيم متن كتابه، رغم الفارق الزمني بينهما أكثر من قرن.

وكأن ابن عساكر هنا لا يريد لكتابه أن يكون الهامش إزاء متن مثل كتاب الخطيب البغدادي، بالخصوص أنه كثرت حول تاريخ الخطيب المختصرات والذيول وهي كما ترون جلها لا ترقى إلى المتن، بل تظل في الهامش مثل كتاب ابن النجار الذي سماه «الذيل على تاريخ بغداد»، وذيل على ابن النجار ابن رافع السلامي وسماه «الذيل على ذيل ابن النجار» وهكذا استطاع ابن عساكر أن يرسخ مكانته في المتن بدليل أنه كثرت بعده المختصرات والذيول، يكفي الإشارة إلى ابن منظور في كتابه «مختصر تاريخ دمشق». وهناك رواية معبرة عن ظاهرة تأليف كتاب ابن عساكر في الثقافة العربية يرويها ابن خلكان في كتابه «وفيات الأعيان» يتحدث فيها بما معناه أنه يستحيل على رجل واحد أن يشرع في تأليفه إلا إذا كان قد أقدم على جمعه منذ يوم عقل نفسه، أي منذ أدركه البلوغ والنضج.