آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 4:06 م

وداعا أسطورة كرة القدم «4»

عبد العظيم شلي

الأيام الأخيرة وأغادر العاصمة الرياض بعد ثلاث سنوات دراسة، ولي فيها خزين ذكريات.

نطوي الكتب مذاكرة استعدادا للاختبارات النهائية، وانطلاقة حمى كأس العالم تشوش تركيزنا، حماسي زائد عن حده لمنتخبي المفضل الأرجنتين، وذهبت بعيدا في التفاؤل بأنه سيدافع عن لقبه خصوصا مع وجود الفتى الذهبي ضمن صفوفه وقد قوي عوده واشتدت رجله، وبالفم المليان أوحيت لزملائي بأن الكأس سيعود ثانية إلى ”بوينس آيرس“، وعلى وقع آخر اختبار لنا في المعهد يسقط المنتخب الأرجنتيني في أول اختبار له أمام المنتخب البلجيكي بنتيجة 1-0 في مونديال أسبانيا 1982، وبعد نهاية المباراة الافتتاحية المخيبة نتيجة للتانغو وليس لعبا، أشبعني الزملاء تنذرا وتفكها، وبالأخص الميالين لمنتخب البرازيل.

ودعت الرياض مشتاقا لهواء الديرة وريحة الأهل والأحباب والأصحاب، القبلات كانت عنوان اللقاء.

مناخ كأس العالم يسيطر على كل تلفزيونات الخليج وأصداء الحرب العراقية الإيرانية تلقي بظلالها الشرسة على نشرات الأخبار، نصم آذاننا عن مصائب المعارك ونغض الطرف عن ويلاتها المفزعة، بينما الكر والفر في عالم المستديرة انحياز وسلوة، نصر مستحق للمنتخب الجزائري ضد منتخب ألمانيا الغربية وهو أول نصر عربي في مونديال عالمي عمت شوارع العاصمة الجزائرية أفراح ورقص ومسرات، حسب المتعبون من هزائم الأمة بأن مسيرات الشعب الجزائري هي تضامنا مع مآسي اللبنانيين إثر الاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت الرامي لطرد الفلسطينيين، لكن تلك المسيرات في بلد المليون شهيد مجرد فرحة كروية.

وظن المستغيثون بأن الدم العربي سينتفض من المحيط إلى الخليج لنجدة اخوانهم، لكن خابت كل الظنون وحارس البوابة الشرقية مشغول بحربه العبثية.

وكيف يكون إذا كان المقاتلون الفلسطينون المحاصرون في بيروت يدافعون عن أنفسهم تجاه الغازي الغاشم وسط لهيب الحرب الأهلية اللبنانية المشتعلة منذ سبع سنوات، يلجأون في أوقات الهدنة للتحلق حول التلفاز لمشاهدة بطولة كأس العالم فرحين بمتابعة أهداف باولو روسي الذي قال فيه محمود درويش شعرا وهو المحاصر معهم!

يا لها من من مفارقة عجيبة وشيء لا يصدق كيف تكون على خط النار معلق بين الحياة والموت، والكرة تأخذك من وسط الجحيم!. حمى مونديال وحمم حروب، فرح ولهو وجنائز تشيع، مأتم هنا وعرس يجاوره، موت وميلاد، تقلبات لا تنتهي ودوران لا ينقضي هي الحياة بحلوها ومرها وتناقضاتها.

مع الأصحاب نرقب جدول المباريات ونحسب نقاط المتصدرين، فوزين متتالين للأرجنتين، ضد المجر بأربعة أهداف وأمام هندوراس بهدفين، المجموع 4 نقاط - وفقا للنظام القديم - أهلته للدور الثاني لملاقاة المنتخب الإيطالي المتواضع لعبا، الذي صعد للدور التالي بشق الأنفس، بعد أداء باهت طوال ثلاث مباريات انتهت بالتعادل، صعود بفارق هدف عن منتخب الكاميرون وعلى إثر ذلك أوقع الجدول المنتخبان الازوري والتانغو وجها لوجه، مباراة ثأرية بالنسبة للارجنتينين بعد هزيمتهم الوحيدة أمام إيطاليا 1-0 في مونديال 1978 على أرضهم وبين جماهيرهم، لكن هذه المباراة الثأرية نهايتها قلبت كل الموازين وخيبت توقعات المراقبين تجاه المنتخب الازوري الذي كان مترنحا خلال الدور الأول وعلى شفى حفرة من الخروج، وقيل بأنه سيكون فريسة سهله أمام الارجنتين التي استعادت القها، لكن المنتخب الايطالي كشر عن انيابه بكل مافي الكلمة من معنى سلبا وايجابا، بالفن بالحماس، بالتركيز بالتألق بالاندفاع بالضرب بالعنف بالقسوة طوال المباراة، وكل قبيح في كرة القدم مارسه أحفاد الرومان كوحوش كاسرة، ان يحتك اللاعبون مع بعضهم بعضا ويسقط احدهما متوجعا شيء معتاد، لكن الشيء المزعج والمستفز أن يقوم اللاعب وعلى غفلة من الحكم بإيذاء خصمه بعيدا عن مسار الكرة، هنا القبح بعينه وتشويه لصورة جمال اللعبة.

هذا ما فعله أكثر من لاعب إيطالي تجاه مارادونا، فقد أشبع ضربا وركلا مع الكرة وبدونها خصوصا من اللاعب الإيطالي ”جنتيلي“ الذي راقبه كظله، ويحسب المشاهد بأن المباراة تجري من دون وجود حكام ولا مراقبين، الكل كان في سبات عميق عما جرى تجاه الفتى الذهبي وحدها الكاميرا رصدت كل شيء.

النتيجة فوز للمنتخب الإيطالي 2-1. وتأتي المباراة الأخيرة للمنتخب الأرجنتيني أمام غريمه التقليدي البرازيل وهو منهك القوى من مباراة شرسة وعدوانية، وتسفر أيضا عن هزيمة ثانية بنتيجة 3-1، فاز السليساو بنتيجة المباراة بينما اللعب من نصيب الأرجنتين، لكن ما الفائدة كل هذا سينسى، والشيء الذي لم ينسى، هو إشهار حكم المباراة البطاقة الحمراء في وجه مارادونا وهو أول كرت أحمر يتحصل عليه من أول مشاركة له ضمن بطولات كأس العالم، مرارة الخسارة قد تكون السبب ولكن كمية الأذى الذي تعرض لها طوال المباريات السابقة وأيضا من زيكو المسعور تجاه ماردونا، انعكس وانفجر في آخر لقطة له، انفعال منه غير مبرر سببه الحكم ذاته فقد غض الطرف عن تعمد لاعب برازيلي بعد إيقاع لاعب أرجنتيني أرضا ولم يحتسب شيئا في ذات اللحظة المشتركة اندفع مارادونا تجاه لاعب برازيلي بحركة غير مقبولة، بعدها صافرة، خطأ مع كرت أحمر، خرج مارادونا من الملعب مطأطئ الرأس بحسرة لا يلوي على شيء، وبخروجه ودعت الأرجنتين البطولة بعد أداء ربما يبدو للبعض بأنه غير مقنع لكن العكس من ذلك تماما، لاعبون جاهدوا وتفننوا لكن خط الدفاع كان مهزوزا ومرتبكا ومثل ما يقال بالبلدي ”دفاع شوارع“، والكرة أولا واخيرا اهداف، والفوز يعمي العيون عن رداءة اللعب وحتى عن سوء سلوك اللاعبين.

أحلام كبيرة رسمت وأمال عقدت على الفتى الموهوب بأنه سيفعل شيء مع أول مشاركة له في المونديال، ربما المنتظر منه كان أكثر وأكبر مما قدمه طوال الخمس مباريات، الجلادون كانوا له بالمرصاد كلما ركل الكرة، والمتعاطفون معه يرون بأنه لم يزل فتيا لم يتجاوز 22 ربيعا.

كم طاله اللمز والغمز والتقليل من شأنه، وبإشارات تهكمية وكاريكاتورية تداولتها الصحافة بإسهاب ضده، كيف يكون هذا أغلى لاعب في العالم وهو لم يفعل شيئا!

هكذا قيل وكتب ودون، هل خابت الظنون بأنه أفضل لاعب وهل وتبخر كل شيء؟.

كاتب السطور كان يراه هو الأجمل والأمتع لعبا وفنا من كل اللاعبين في هذه البطولة برمتها وإن كان لم يأخذ مكانته بعد عند المتقلبين والمنتقدين والمتحاملين عليه.

نعم مكانته الفنية عالية والتشبث عندي بدأ من أول مرة رأته عيناي في كأس العالم للشباب 1979 وأيضا في كأس العالم المصغرة وكوبا أمريكا، بأسلوبه الرائع وطريقة لعبه المميزة ومراوغاته المذهلة، ويقيني دفعني في صراع جدلي مع الأصحاب في جلسات متعددة بأن مارادونا يملك مهارات اللاعب الفنان وبأنه أفضل لاعب في البطولة، ليس الحظ وحده من وقف أمامه بل العنف الذي مورس عليه بلا رحمة ولا هوادة وأيضا لعب وسط منتخب بدأت علامات الشيخوخة تزحف إليه مقارنة بإنجاز 78 ذاك المنتخب الشاب. نعم مارادونا يستحق أن يكون أغلى لاعب في العالم ومن دون منازع، وحدهم المتأملون والعارفون بأسرار اللعب مدركين حجم قدراته، والمراهنون عليه أيضا كثيرون يرونه هو الأجدر والأفضل.

مع إسدال ستار مونديال 82 انتهى جيل كمبس ورفاقه، لكن الأمل والمستقبل سيضمران الفرح بعد أربع سنوات على أقدام الفتى الذهبي.