آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 5:35 م

الحجاب والعلم افتراق أم وفاق ؟

زاهر العبدالله *

الحديث عن سيدة نساء العالمين يحار الفكر أن يقف عند ساحله فهي قدوة الرجال والنساء ومن يتأمل في سيرة الزهراء يجد مجموعة من الفضائل اجتمعت فيها ومنها الأخلاق والعلم والعفة والنقاء والفكر وهي ناشطة في مجتمعها فهل كان الحجاب عائقا عن أن تقوم بدورها في مجتمعها أم هو وسيلة لنشر القيم والفضائل والعلم؟!

هذا ما سنبحثه في هذا المقال المتواضع في ساحة قدسها .

امتازت سيدة نساء العالمين أنها مُلهمة ومُعلمة لنساء قومها وذلك من خلال تصدّيها لأسئلة النساء وهناك دروس خاصة تخصّ بها بعض صحابة النبي الأعظم محمد ﷺ لماذا؟

لأنهم وصلوا إلى مقام عال من تقوى وعلم وورع ووعي ومعرفة بمقامات أهل البيت مثل سلمان المحمدي وجابر بن عبد الله الأنصاري رضوان الله عليهما وفق الحدود الشرعية التي نص عليها الشارع المقدس وهنا سأقف عند أعمق معرفة يطمح لها كل سالك إلى ربه:

وهي معرفة الله سبحانه وهذه المعرفة مدار كل المعارف بحيث من وعاها بكل جوارحه وجوانحه علم أسرار كثيرة في حياته وكشف حجب الظلمة عن قلبه. فقد ورد في الدعاء المعروف الوارد في كتاب إكمال الدين:

روى أبو محمد الحسن بن أحمد المكتب قال:

وهو الدعاء في غيبة القائم :

«اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك، فإنك إن لم تعرفني رسولك، لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك، ضللت عن ديني». [1] 

 عناصر البحث:

«1» كيف أصّلت هذه المعرفة؟

«2» شرح مبسط للمعارف والعلوم العميقة في خطبتها الفدكية.

«3» خلاصة المقال القليل في حقها.

«1» كيف أصّلت هذه المعرفة؟

تعرضت الزهراء لهذا العلم العميق لتجذره في قلوب الأمة من خلال خطبتها الفدكية وهي في أعلى درجات العفة والحشمة والوقار والهيبة والسكينة حيث ضربت ملاءة «وهي الملحفة كما ذكر ابن منظور في لسان العرب، مادة ملأ» بينها هي والنساء وبين الرجال في مسجد رسول الله ﷺ أرادت بذلك أن لا يرى شخصها ونثرت من جواهر كلامها على أسماعهم ما يُذيب القلوب المتحجرة ويرفع ظلام الجهل ويهدي إلى نور العلم في معرفة الحق سبحانه وتعالى حيث قالت سيدة النساء في بداية خطبتها:

«الحمد الله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها جم عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في الفكرة معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كونها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته، وتنبيها على طاعته، وإظهارا لقدرته، وتعبدا لبريته، وإعزازا لدعوته، ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته وحياشة منه إلى جنته....» [2] 

«2» شرح مبسط للمعارف والعلوم العميقة في خطبتها الفدكية:

ليقف المتأمل هنا في هذه الجواهر من الكلام التي هي في قمة البلاغة والفصاحة إذ يستحيل لعاقل أن يقول كلمته في ارتجال دون تحضير سابق يجهد نفسه في إعداده، وإعداد هذا السبك الخلاق الذي يفتح أبواب البحث البلاغي والنحوي لأرباب الفصاحة وعلمائها. فهذا علم في حد ذاته ولست بصدد الحديث عنه ولكي لا أطيل في الموضوع لأن هذه الخطبة تحتاج لكتب للوقوف على عمق المعارف التي بها.

وهنا سأقف خجلاً أمام معرفة الله سبحانه في كلماتها النورانية على نحو نقاط وهي:

1 - تعلمنا من المقدسة الطاهرة كيف نتأدب مع الله تعالى قبل أي خطاب نقوم بقوله لماذا؟ لأنه الملهم الحقيقي بما أعطانا من الجوارح والجوانح. حين قالت:

«الحمد الله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم».

2 - ثم تقول : «بما قدم من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها..»

تعلمنا... بما قدم لنا الحق سبحانه من نِعم ابتداها ولم نطلبها مِنه وأتمم نعمه على خلقه وأجزل العطاء بغير مَن منه علينا بل بتفضل منه وكرم.

‏3 - تكمل بقولها : «جم عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها..».

‏أي عجز الخلق عن إحصائها عددا ولم يطلب الجزاء على ما تفضل على خلقه بل زادهم من فضله فحار العقل من كرمه وتاه الفكر عن فهم جوده وعطائه.

‏4 - ثم قالت : «وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها..».

‏ورغم كل هذا الفضل من الله سبحانه فإنه ندب خلقه أي دعاهم إلى شكر هذه النعم ودوام ذلك الشكر في كل لحظات حياتهم ووعدهم بالزيادة في الفضل كما دفعهم إلى دعوة الآخرين لذلك الشكر والحمد له سبحانه لا لحاجة له جلا جلاله بل كي يزيد هو في فيضه وفضله على خلقه.

‏5 - ثم قالت : «وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في الفكرة معقولها..»

‏فإذا تَيقّن العبد جوهر العبودية للحق سبحانه وتعالى وتَجلّت الحقيقة في أعماق جوانحه شهدت بذلك روحه وجوارحه وعقد القلب أصولها في لبه ووعاها عَقلُه وفكره فيقولها وهو في تمام رشده ومحض اختياره: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له..».

‏6 - ثم قالت روحي فداها: «الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته..»

‏بعد عمق هذه المعرفة لله سبحانه يجب نفي الصفات عنه لأنه أجل من أن يدرك بالجوارح والحواس أو أن تَصفه الألسن المحدودة بشيء من ألفاظها أو أن تتوهمه العقول بتصوراتها بالكيف فهو من أين الأين ولا أين له وهو من كيّف الكيف ولا كيف له.

‏7 - ثم قالت : «ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كونها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها..»

‏ابتدع أي أتقنها من غير سابقة ولا تجربة ولا محاولة وأوجدها من العدم إلى الواقع الخارجي في أبلغ صورة وهيئة فلا شيء كان قبلها ولا مِثلها كونها بقدرته المطلقة ثم نشرها في عالم الإمكان بمشيئته كل ذلك ليس لحاجة يرغب فيها أو صورة يتأمل فيها خلقه.. فهو الغني المطلق جل جلاله.

‏8 - ثم قالت روحي فداها: «إلا تثبيتا لحكمته، وتنبيها على طاعته، وإظهارا لقدرته، وتعبدا لبريته، وإعزازا لدعوته..».

‏هنا تذكر علة الخلق وهي أن يعين خلقه على شكر نعمه سبحانه فهذا الوجود ليتيقّن الخَلق بعظيم حِكمته سبحانه ولينبه عقولهم لطاعته وليعرفوا قدرته ليعبدوه راغبين وطامعين لمزيد فضله وليعتزوا بنشر دعوته بين الناس كي يهتدوا ويهدوا غيرهم من حيرة الضلالة إلى نور الولاية.

‏9 ثم قالت : «ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته وحياشة منه إلى جنته..»

‏رغم عظيم هذا التفضّل على خلقه وجزيل نعمه على بريته يُريد أن يسكنهم فسيح جنته وليذوقوا نعيم فضله فَحثّهم على طاعته لينالوا بذلك كرم جوده بالثواب الجزيل ووضع العقاب لمن يعصيه كي لا نُحرم من جميل فضله ونُبتلى بنقمته كل ذلك لطفاً منه بخلقه يُريد دخولهم جميعاً لواسع جنته فَسُبحانك ما أعظمك وأكرمك وما أقسى قلوبنا لنكران فضلك.. الحديث يطول نكتفي من هذه الجواهر من كلامها روحي فداها بما قلنا.

«3» خلاصة المقال القليل في حقها:

‏يا أخوة ويا أخوات أخاطب أرواحكم وجوامع عقولكم أقسم عليكم بالله: ألم تدخل كلماتها النورانية أعماق قلوبكم فهل منعها حجابها أن تنثر جواهر المعرفة في عقول وقلوب الرجال والنساء وهل هناك أعظم من معرفة الخالق سبحانه...

فهي لا تخضع لزمان ومكان مهما طال الزمن لأنها لغة الفطرة والوجدان ولو سبحت في معارف خطبتها العظيمة التي هي فوق كلام البشر ودون كلام الخالق سبحانه لعلمت أنْ النساء باستطاعهن أن يصلن لأعلى درجات العلم والخدمة والتطور والتحضر والحرية وهن في أعلى درجات عفتهن وخدرهن وحجابهن فلم يكن الحجاب أبداً حجازاً عن تقدم النساء فالحجاب هنا وفاق وانسجام تام مع العلم وليس افتراقا عنه كما يتوهم بعضهم.

ولو نظرنا نظرة لحالة الحجاب اليوم لرأينا ما

يتفطّر له القلب من لوعة الأسى من مناظر يدمى لها الفؤاد ويتجرع منها غصصا ويئن لخطرها الفكر ويتحسر لها الإدراك فيا نساء العالم عودوا لهدي النبوة ونبراس الرسالة وحياض العفاف ولا تنجرفوا خلف الأوهام الخدّاعة التي تطرحُها وسائل الإعلام وتصورها أنها الحرية والتطور فالحرية الحقيقية أن تعرفي الله تعالى حق معرفته وتطيعي أمره وتجتنبي عقابه لماذا؟!

لأنه صاحب الفضل والكرم والجود عليكِ فلا تجازيهِ بمعصيته ولا تحاربيهِ بالهوى ولا تتركيهِ بالطمع ولا تهجريه بالشهرة ولا تعرضي عنه بالتمسك بفعل الناس فهو الأولى بالطاعة لأنه بيده ناصيتك في أول أمرك وآخره فإما يُسكنكِ جمال جنته أو سعير ناره. فاختاري ما اختاره الله سبحانه لك لأنه الأعرف بصلاحكِ من فسادكِ

والحمد لله رب العالمين.

 

[1] بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 53 ص 187.

[2]  المصدر السابق ج 29 ص 221.