آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:06 ص

هاتوا الدفاتر

في أولِ يومٍ من العام الميلادي، تذكرت سنواتِ الطفولة، عندما يدخل المدرس الحجرة ونحن الصغار في ضوضاء وفوضى وهرج، ثم في لحظة يباغتنا: هاتوا الدفاتر، ويسود الصمتٌ وكأننا متنا كلنا.

أبناء آدم، نبيعُ ونشتري مع اثنين: المؤمنُ بائعٌ واللهُ يشتري، وغيره بائعٌ والشيطانُ يشتري. والله ترك لنا حريةَ البيع والشراء فيما خوَّلنا في ملكه من مالٍ وعُمْر، فعلينا مراجعة الدفاتر والنظر فيما بعنا واشترينا على الدوام. وليكن أول أسبوعٍ في السنة موعدًا من هذه المواعيد، لأن في الغدِ صحائف لا تمحى.

قبل أن تتطور حارتنا، كانت الدكاكين الصغيرة، بين الأزقة ومتصلة بالدور والمنازل، تبيع ما يحتاجه الجيران في يوميات الحياة، وما يستهلكه الصغار من حلويات ولعب. كلها - تقريبًا - كانت تبيع بالدين إلا ما ندر، في كل دكانة دفتر بجلدٍ سميك وقراطيس مخططة، يشتري الزبون ومالك الدكانة يكتب الدَّين تحت صفحةِ الزبون. أصحاب هذه الدفاتر يراجعونَها في أواخر الشهر، حين يكون من المتوقع أن يتوفر المبلغ عند الجار من أجرةِ العمل. الغرض من الدفاتر كان تسجيل نقاط ربح عند الله وأن تجري الأمور المالية يومًا بعد آخر، أما التوسع والتطور وفتح منشأةٍ أخرى، فلم يكن في الحسبان.

الآن كل مؤسسةٍ أو شركة، أو متجر ناجح ينتظر الميعادَ في نهاية السنة أو بداية سنةٍ أخرى، ويحسب الربح والخسارة، وما هي البضاعة والخدمة التي يشتريها الناسُ أكثر من غيرها، وما هي التي لم تَرُجْ لقلَّة الرَّغبة فيها، وتكون خسارة في النهاية. ومن من الموظفين أخلصَ فتزيدَ في عطائه، ومن قصَّر فلا زيادة، ولربما تصرف قسمًا منهم لدواعي قلة الأداء والكفاءة. فعلٌ عقلائي، يجب أن يفعله كلُّ أبناء آدم، فليس أغلى من العمر كيف ينفقه الإنسانُ فيما يرغب أن يعود عليه بالنفع. فمن أراد الآخرةَ عليه أن يسعى لها سعيها، ومن طلب الدنيا عليه العمل من أجل تحصيلها.

زالَ وارتفعَ من العامِ المنصرم كلُّ شيء حتى الذكرى، وبقيت دفاتره وحساباته، فلا مجالَ لأوهام النسيان وأنها - امتحت - إلا إذا ازدهرَ وأينعَ هذا العامُ الجديد برحلتنا فيه واستمرارنا في اليقظة قبل أن يوقظنا صوتٌ غليظٌ أجش: هاتوا الدفاتر!

مستشار أعلى هندسة بترول